: آخر تحديث

العقل بين الاستقصاء والإقصاء

28
34
31
مواضيع ذات صلة

هل العقل العربي غير ميّال إلى الاستقصاء؟ ما إن انبثق هذا السؤال في الذهن، حتى انقضّ عليه سرب من إبر النحل، لكن من دون شهد. المسألة ليست هيّنة، من قبيل إطلاق الزفرات أسىً لغياب الصحافة الاستقصائية في بلاد العرب، فنعرف علة الألاعيب التي أوصلت الليرة اللبنانية إلى مهاوي مئة ألف ليرة بدولار واحد، أو ترجيكوميديا نصف قرن من التغنّي بالتحول الديمقراطي في السودان، ليصحو الشعب على أن «الدّم قراطية» إلى الرّكب، مجرّد تناحر على كعكة، وأن التحول الديمقراطي علكة، وأن الشعارات دبكة، محبوكة بألف حبكة، لتتفاقم اللبكة، وتشتد الربكة، وفي آخر السكّة، بلد تهدّه ألف وعكة. قلت للقلم: كيف سيكون السودان سنة 2030 قال: لا عليك بمهاترات المتخرصين، فحتى لو قسموه إلى ثلاثين بلداً لكانت مساحة كل واحد ستين ألف كم مربع، ستّ مرّات لبنان، «لبنان هالكم أرزة اللي عاجقين الكون».

هو ذا عيب الاستطراد، وإلاّ فموضوعنا كان العقل العربي أهو حقّاً غير ميّال إلى الاستقصاء؟ نرفع أيدينا داعين له بالاستقصاء. مثلاً: إلى أيّ مدى هو العالم العربي مشتاق وعنده لوعة إلى تاريخه من خلال البحث العلمي الاستقصائي؟ ألا تشعر الأوساط العلمية العربية ذات التخصصات المعنية بالقرون الخالية بالضيق، بالحرج، حين ترى أستاذ الكرسي في جامعة «كوليج دو فرانس»، المتخصص في تاريخ وادي الرافدين «دومينيك شَرْبان»، ثملاً بعجائب حمورابي، بابل، آشور، أور، وأساطير العراق العريق وأساطينه، يفصّلها لطلاّبه في عشر ساعات (على يوتيوب مجّاناً)، ويختار لها عنواناً هو ملحمة في جملة: «مُذّاك لم يُخترع شيء»؟

تاريخ ما بين النهرين، (في الآرامية بيت نهرين، انظر بيت وبين!)، فيه استقصاء، ولكنه قريب، فالأبعد علم الإحاثة الذي يعكف على دراسة المطمورات والأحفوريات، وفي هذا الميدان مجموعة تخصصات تستخدم الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء العضوية، الأحياء، علم الآثار، طبقات الأرض، علم البيئة وتغير المناخ. في هذا العقل العربي مُحقّ، فالاستقصاء مع كثرة هذه العلوم في مجال واحد، أشبه بالركض وراء مئة أرنب في آن.

بارك الله في الطغرائي وحكمته: «فيمَ اقتحامك لُجّ البحر تركبهُ.. وأنت تكفيك منهُ مصّة الوشلِ؟»، أن تُدخل إصبعك في الماء وتمصّ الفقاقيع، فما بالك بالاستقصاء في الفيزياء الفلكية، الكون المنظور الآن مداه خمسون مليار سنة ضوئية، تصل إليها بعد خمسين مليار سنة، إذا طرت بسرعة الضوء. يومئذ قد تجد أن وراءها خمسينات أخرى. أما سمعت الحكيم الجزائري رشيد طه يقول: «يا رايح وين مسافر تروح تعيا وتولّي»؟

لزوم ما يلزم: النتيجة اللغوية: حين أدرك العقل استعصاء الاستقصاء، آثر إقصاء الاستقصاء.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد