: آخر تحديث

الوفاء حين يسكن ذاكرة وطن

3
4
3

علي عبيد الهاملي

لم تكن صدفة أن يتزامن تكريم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، للشاعر الراحل سلطان بن علي العويس، في أبوظبي، يوم الخميس الماضي، مع توزيع جوائز الدورة التاسعة عشرة من جائزة العويس الثقافية في دبي.

فالصدف في مثل هذه المناسبات لا تفسر شيئاً، لأن ما يحدث فيها أكبر من أن يُعلق على تزامن وقتي عابر.

ما حدث كان رسالة واضحة تقول إن الوفاء حين يسكن ذاكرة وطن، يصبح جزءاً من نظامه الأخلاقي قبل أن يكون جزءاً من جدوله الرسمي.

تكريم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، حفظه الله، لسلطان العويس، عليه رحمة الله، لم يكن مناسبة بروتوكولية تُضاف إلى سجل التكريمات، بل كان تقديراً لرجل أسهم بعمق في تشكيل الوعي الثقافي الإماراتي والعربي.

ولأن قيادة الدولة تدرك قيمة هذه الرؤية، جاء التكريم وكأنه امتداد طبيعي لسيرة رجل بدأ مشروعاً ثقافياً ما زال يثمر، حتى وهو في غيابه.

ففي اللحظة التي كان فيها اسمه يُكرَّم في أبوظبي عبر «جائزة أبوظبي»، كانت جائزة أخرى تحمل اسمه تُوزع في دبي على مبدعين عرب، التقوا في دائرة واحدة من الضوء، دائرة الثقافة التي أسس لتوهجها الراحل سلطان بن علي العويس.

ليس التزامن وحده ما يستدعي التأمل، فتكريم القيادة لرائد من رواد الإبداع في الدولة إنما هو نابع من تكريم هذا الرائد لرواد الإبداع في الوطن العربي. كأن الإمارات تقول من خلال قيادتها: نحن لا ننسى الذين فتحوا لنا نافذة إضافية على العالم، ولا الذين جعلوا للكلمة قيمة، وللثقافة وزناً، وللمبدعين ملاذاً مشرّفاً يليق بما يكتبون.

لم يكن سلطان العويس صاحب جائزة فقط، بل كان صاحب رؤية. أنشأ جائزته وهو يدرك أن الثقافة العربية تحتاج إلى منصة تكرم الإبداع، لا أن تستهلكه فقط، وتضيء على المبدعين لا أن تطمرهم في زحام اللحظة.

في دبي، حيث كانت الجوائز توزع، كان المشهد يأخذ شكلاً آخر من أشكال الاستمرارية. الوجوه الحاضرة لم تكن وجوه فائزين فقط، بل كانت امتداداً لروح تلك الجائزة التي أراد لها سلطان العويس أن تكون مساحة للكرامة الثقافية العربية.

ما حدث في أبوظبي ودبي معاً درس في العلاقة بين القيادة ورموز المجتمع. فمن يكرّم المبدعين، يستحق أن يُكرم. ومن يمنح وطنه نافذة على الفكر والفن والأدب والإبداع، يستحق أن يُمنح نافذة على الخلود.

ما يزيد اللحظة بهاء أن الجائزة التي تحمل اسم سلطان العويس لم تتوقف منذ تأسيسها، ولم تتردد أمام التحولات الكبيرة التي شهدها العالم العربي. بقيت ثابتة مثل نخلة في صحراء تعرف اتجاه الرياح ولا تنحني أمامها. والفضل في ذلك يعود إلى المؤسس، وإلى المؤسسة التي واصلت حمل الأمانة، وإلى الدولة التي ترى في الثقافة رصيداً وطنياً.

إن تكريم الراحل سلطان بن علي العويس في اللحظة التي تُكرِّم فيها مؤسسته أعمال المبدعين العرب، ليس مجرد احتفاء بذكرى رجل رحل، بل هو احتفاء بفكرة لا تزال حية؛ فكرة أن الإنسان يقاس بما يعطي، لا بما يملك، وأن العطاء الذي يغادر صاحبه يبقى، لأن الباقي ليس هو الاسم فقط، بل هو الأثر أيضاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد