أن يعرف السياسي كيف يخسر أهمّ بكثير من أن يعرف كيف يربح. السياسي الذي يعرف كيف يخسر يترك أمامه خيارات عدّة مفتوحة ولا يحوّل نفسه أسيرا لمنطق واحد وحيد. لا يعرف فلاديمير بوتين أن يخسر، كونه لا يستطيع أن يكون أكثر من دكتاتور في بلد يحكمه منذ ما يزيد على عشرين عاما بالحديد والنار. في روسيا فلاديمير بوتين لا وجود لأيّ حوار أو أخذ وردّ من أي نوع مع الشخصيات المحيطة به أو تلك التي تمتلك حيثيّة ما أو قيمة فكريّة في بلد ذي تاريخ عريق.
غامر بوتين عسكريا في أوكرانيا من دون أن يأخذ في الحسبان طبيعة البلد الذي يريد إخضاعه وطبيعة الشعب الأوكراني الذي ذاق طعم الحريّة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر العام 1991 ومطلع 1992. الأهم من ذلك كلّه، أنّه لم يتوقّع رد الفعل الأوروبي والأميركي على مغامرته العسكريّة. نسي في كلّ وقت لماذا انهار الاتحاد السوفياتي ولماذا لا يستطيع شخص مثله، يمتلك كلّ نوع من الأوهام، إعادة الحياة إليه. لعلّ أهمّ ما نسيه أنّ حجم الاقتصاد الروسي أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي، وذلك على الرغم من كلّ الثروات الطبيعيّة التي يمتلكها بلده، في مقدّمها النفط والغاز. اعتقد بكلّ بساطة أنّ السلاح النووي هو كلّ شيء في هذا العالم. عاد إلى التلويح بهذا السلاح بعدما اكتشف أن الأسلحة التي يرسلها الغرب إلى الجيش الأوكراني أثبتت فاعليتها ومنعت الجيش الروسي من الاستيلاء على العاصمة كييف.
من هذا المنطلق، لم يترك بوتين أمامه سوى خيار التصعيد، خصوصا بعد الضربة المعنويّة الأليمة التي تلقاها جيشه وشعبه نتيجة إغراق الطراد “موسكفا” بواسطة صاروخ أوكراني من طراز “نبتون”. تكمن أهمّية “موسكفا” في أنّه سفينة القيادة للأسطول الروسي في البحر الأسود. ليس إغراق الطراد الموجود في الخدمة منذ العام 1983، أي أنّه قديم نسبيّا، حدثا عاديا. يعود ذلك إلى أنّه يكشف مدى تخلّف السلاح الروسي عموما. هذا السلاح فعّال عندما يتعلّق الأمر بشعب أعزل مثل الشعب السوري، قرّر بوتين، للأسف، أن يكون شريكا في الحرب التي يتعرّض لها منذ أحد عشر عاما.
يفرض المنطق على الرئيس الروسي امتلاك شجاعة إعادة النظر في مواقفه والاقتناع بأنّه خسر الجولة الأولى في حرب أوكرانيا. خسر تلك الجولة بسبب عناده وجهله بالوضع الداخلي الأوكراني. خسر الرئيس الروسي الجولة الأولى من الحرب بسبب طبيعة تكوينه، على الصعيد الشخصي، أوّلا… وجهله بتطورّ أوكرانيا التي بات شعبها يمتلك حيويّة سمحت بانتخاب رئيس يهودي، هو فلودومير زيلنسكي، في بلد ذي أكثرية أرثوذكسية!
في غياب أي قدرة لدى بوتين على القيام بعملية نقد للذات وللوضع الروسي وللسياسات التي اتبعها، ستكون الحرب الأوكرانيّة حربا طويلة. يظلّ أخطر ما في الأمر أنّ لا ردّ لدى الرئيس الروسي على الفشل سوى بالتصعيد بدل البحث عن حلول سياسيّة. كان في استطاعته التوصّل إلى حل مرض لروسيا ولهيبته الشخصيّة بمجرّد حشد قواته على حدود أوكرانيا… وتفادي الاجتياح.
نجح الرئيس الروسي في تغيير كلّ المفهوم الأوروبي للأمن معيدا الاعتبار إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو). كذلك، وفّر فرصة لإدارة جو بايدن كي تستعيد دورا على الصعيد العالمي، خصوصا بعد الانسحاب العسكري الأميركي المذلّ من أفغانستان الصيف الماضي. هل يستطيع فلاديمير بوتين التغلّب على طباع فلاديمير بوتين، وهي طباع الضابط في الاستخبارات السوفياتية (كي.جي.بي) الذي يعتقد أنّ في الإمكان إعادة الحياة إلى الاتحاد السوفياتي، لا لشيء سوى لأنّه يمتلك ترسانة نوويّة وصواريخ عابرة للقارات؟
تبدو حرب أوكرانيا مهمّة، بل نقطة تحوّل على صعيد العلاقات الدوليّة. إنّها مهمّة نظرا إلى أنّها ستسمح بمعرفة ما إذا كان الرئيس الروسي قابلا للإصلاح أم لا… أم أنّه بشّار الأسد الآخر بسلاح نووي بدل السلاح الكيمياوي والبراميل المتفجرة. فوق ذلك كلّه، إنّ حرب أوكرانيا مهمّة لإدارة أميركيّة تحتاج من أجل استعادة موقعها لدى حلفائها في العالم إلى سياسة متكاملة بدل السعي لاسترضاء “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران والاستسلام أمام شروط “الحرس الثوري” بسبب امتلاك إيران النفط والغاز.
مجرّد الفصل بين النظامين في إيران وروسيا يعني رفض البناء على سياسة نجحت في حشر بوتين في الزاوية وجعلته عاجزا عن التصالح مع المنطق. في نهاية المطاف، كشفت أوكرانيا روسيا، لكنّها يمكن أن تكشف إدارة بايدن وما إذا كانت قادرة على تجاوز العقد التي تحكّمت بها منذ دخول الرئيس الأميركي الحالي البيت الأبيض قبل سنة وأربعة أشهر. من بين هذه العقد الهرولة خلف إيران واعتبار أنّ التوصّل إلى اتفاق في شأن برنامجها النووي إنجاز بحدّ ذاته وذلك من دون التطرّق إلى سلوك “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الحرس الثوري” في المنطقة.
من الواضح أنّ حرب أوكرانيا مستمرّة، خصوصا في ضوء العناد الذي يمارسه بوتين وإصراره على تنفيذ الخطة البديلة من احتلال كييف ومدن أخرى والاكتفاء باقتطاع أراض أوكرانيّة. ستكون لهذه الحرب، في المدى الطويل انعكاسات على وضع الرئيس الروسي نفسه الذي لم يتوقّع كلّ هذه العقوبات الأميركيّة والأوروبيّة على بلده وعلى كبار رجال الأعمال المحيطين به من الذين يمتلكون مصالح في أنحاء مختلفة من العالم. من يتذكّر أنّ الخطأ الفظيع الذي ارتكبه الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروشوف، وهو خطأ التسبب بأزمة الصواريخ الكوبيّة مع إدارة جون كينيدي في العام 1962، أدّى إلى إزاحته في العام 1964!
يبقى السؤال الذي سيطرح نفسه أيضا، ذلك المرتبط بإدارة بايدن وما إذا كانت ستبني على نجاحها الأوكراني أم لا؟ هل تبقى أسيرة العقدة الإيرانيّة أم تتجاوز هذه العقدة وتدرك أنّ من غير المنطقي التشدّد مع بوتين والتساهل مع “الحرس الثوري” الإيراني الذي لا يهدّد الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج فحسب، بل يهدّد كلّ حليف من حلفاء أميركا في المنطقة أيضا؟…