لم تتمكن «بتول» من السكوت عما حصل لزوجها، وهي التي تربّت في بيت يؤمن بالحق والعدل والكرامة، وقرّرت أن تتقدّم بشكوى رسمية، لكن قبل ذلك قرّرت استشارة رئيسها في الجامعة، لعله ينصحها بما يجب عمله، وقالت له: لقد عذبوا زوجي يا دكتور! سمع العميد شكوى الأستاذة بتول، وكان حزبياً كبيراً، فضحك محرجاً، وقال للتي جاءت تستغيث به: عذبوه؟! يا معودة هذا موتعذيب. كانوا حتماً «يتشاقون» (أي يمزحون) وياه فقط.
كانوا، إذن، يمزحون مع زوجي صباح، عندما حطموا أسنانه، وقرضوا حافات لسانه بالكلَّابتَينِ، وعذبوه بالكهرباء. والعميد نفسه أكَّد لها أن التعذيب شيء آخر أبعد من مجرد الدغدغة وحلحلة الأسنان. ولو لم تكن المزحة خفيفةً لما عثرت لزوجها على أثر. وكان رأي العميد الموقّر أن تحمدَ ربَّها لأنه عاد إلى بيته «مثل الورد»، ماشياً على ساقَيه.
تركت بتول كل ما تملك، البيت والسيارة والوظيفة الجامعية، وأخذت ابنيها يزن وزينة، وهربت مع زوجها، في ليلة سوداء، إلى الخارج.
دبَّر أحد الأقارب جوازاً مزوَّراً للمذيع الهارب، يحمل اسم، كوركيس شمعون، المهنة تاجر، وربَّى شاربين كثَّينِ، وأخفى عينيه وراء عوينات سميكة، حسب الصورة الملصقة في الجواز الجديد، وهو لم يكن في حاجة إلى تغيير ملامحه، لأن من يرى الشبح المتداعي، الذي آل إليه، بعد خروجه من التوقيف، لن يتعرّف فيه على صباح المذيع الوسيم.
وصلوا إلى الأُردن، وقدّموا أوراقهم إلى مفوضية اللاجئين، وانتظروا حتى جاء دورهم في التسفير. ورغم أن الرشوة كانت تشتري العراق بأكمله، فإن بتول لم تكن تحمل أي شهادات أو تقارير طبيَّة أو إنذارات بالفصل من الوظيفة. كان لسان صباح المقروض بكباسة الورق، والمثقوب بالكلابتَينِ، شهادة الإثبات الوحيدة على استحقاقه وأُسرته حق اللجوء.
* * *
قرأت الكثير مما صدر عن فترة حكم الإرهابي صدام حسين للعراق، وهناك عشرات الكتب والتقارير، التي تناولت عهده الدموي، منها: «قصة سقوط صدام حسين وانهيار البعث»، 2003، لشامل عبدالقادر. و«35 عاماً من الخديعة والقتل»، لسيف الدين الدوري، بخلاف الكتب الموسوعية عن الانتهاكات المسندة إلى صدام حسين. وهناك «أرشيف جرائم البعث الكيماوية»، عن جرائم الأنفال والإعدامات بحق الأكراد.
وفي الإنكليزية Black Book of Saddam Hussein، وهو عمل توثيقي شامل من القتل الجماعي إلى التهجير والاغتيالات، كما كتب محمود سعيد رواية Saddam City وثّق بها، بشكل روائي وواقعي، معاناة العراقيين في سجون النظام البعثي، وهناك كتاب الباحث روبن مور Hunting Down Saddam، الذي ضمّنه تفاصيل مطاردة واعتقال صدام، وتوثيق جرائمه وعمليات الإبادة بحق المدنيين، وغيرها الكثير جداً.
أمام كل هذا التوثيق لجرائم صدام، تبدو الفقرة من رواية إنعام كجه جي، على الرغم من بشاعتها، نوعاً من المزاح أو «سلطة»، مقارنة بغيرها، في وصف جرائم صدام، التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، والتي نجحت ليس فقط في استمرار حكم البعث لقرابة أربعين عاماً، بل في تحطيم كرامة ونفسية العراقي الأبية على الإذلال، ودفْع شعبه إلى الهرب للخارج بأي وسيلة وطريقة كانت. ولو كنت من أعداء العراق لما ترددت في منح صدام وساماً، ولما ترددت في تدريس سيرته، غير العطرة، ولوضعت تماثيله في كل دوار وتقاطع! وبالتالي ما فعله «عشاقه»، أو جهلة الأمة، وما أكثرهم، في أكثر من دولة عربية، لم يكن يزيد على ذلك، فرمز الجهل وعنوان البطش ورأس الخراب يستحق إقامة عشرات التماثيل له، وتحسُّر الجهلة وفارغي العقول على عهده لا يمكن فهمه، فلولا جرائمه غير المسبوقة، لما وصل العراق إلى هذا الحضيض، بعد أن مسح بيده غير الكريمة كرامة شعبه بالأرض، من دون اكتراث ولا خجل ولا وجل.
أحمد الصراف

