: آخر تحديث

موريتانيا... رسائل مهمة من الرئيس

2
2
2

انتهت جولة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في منطقة واسعة من الشرق الموريتاني، خصوصاً الشريط الحدودي مع دولة مالي، وهي منطقة تحمل في تضاريسها وتاريخها مزيجاً من الهدوء الظاهر والقلق الداخلي، وتعكس مستوى الخصاص الكبير في التنمية والخدمات، وتترقب منذ سنوات أن تلحق بالعاصمة التي باتت تمثل الفارق في كل شيء تقريباً.

في هذه الجولة، بدا أن مهمة الغزواني تختلف عن مهمة أسلافه، إذ يسعى إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والناس، بعدما كانت هذه العلاقة قد تضرّرت بشكل واسع خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز. لكنّ المظهر الأهم، إلى جانب الرسائل السياسية الواضحة والخفية، كان محاولة ترميم الفجوة بين الخطاب الرسمي الذي يرفع شعار محاربة القبلية والمناطقية والشرائحية، وبين واقع اجتماعي لا يزال مشدوداً إلى انتماءاته الأولى، خصوصاً في تلك المناطق.

وقد عكست الوقائع على الأرض قبل أسابيع من الزيارة حجم الإشكال، حين انفجرت نزاعات عنيفة حول ملكية أراضي «الآبار» بين مجموعات قبلية كبرى، في مشهد قديم - جديد أعاد إلى الأذهان صراعات تشبه «داحس والغبراء» في قسوتها وبنيتها العميقة.

كما كانت جولة الغزواني محاولة لتجاوز القوالب النمطية المعهودة لعلاقة مضطربة بين الدولة ومواطنيها، تقوم على مقايضة التنمية بالتزامات سياسية وانتخابية، حاول فيها كسر هذا النمط، وتقديم التنمية على أنها حق للمواطن، بل وضرورة لاستقرار منطقة حدودية، على تماس مباشر مع ثغور «الإرهاب» في الساحل الأفريقي المشتعل.

منذ اللحظات الأولى لانطلاقها، بدت الجولة مختلفة عن سابقاتها. ظهر الرئيس وسط التجمعات من دون حواجز، يصافح الناس، ويستمع إليهم أكثر مما يتحدث. جاء هذا الأسلوب أقرب إلى العفوية، وإلى رغبة في كسر المسافة التقليدية بين السلطة والمجتمع. هذا البُعد الإنساني، في دولة شاسعة المساحة ومتباينة الظروف، ليس تفصيلاً عابراً؛ إنه جزء من محاولة سياسية لإعادة بناء الثقة التي استهلكتها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

كانت الرسالة الأولى للجولة واضحة: الدولة موجودة. وجودها ليس عبر المؤسسات البيروقراطية وحدها، بل عبر حضور سياسي مباشر في الميدان. ففي بلد تتفاوت فيه الخدمات بين منطقة وأخرى، كان وصول الرئيس إلى بعض البلدات اعترافاً بمعاناة السكان، وتذكيراً بأن الهامش لا يزال ضمن حسابات المركز، حتى لو تأخر ذلك الاهتمام. تحدّث المواطنون إلى الرئيس عن أمور بسيطة لكنها جوهرية: طريق تتأخر صيانته، مدرسة من دون معلم، نقطة صحية دون تجهيز. وبدا واضحاً أن الرئيس يدرك أن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع المزاج العام، وهي التي تحدد علاقة المواطنين بالدولة.

وفي مستوى آخر، أرادت الجولة أن تعطي للنخب السياسية إشارة واضحة بأنّ المرحلة المقبلة لن تُدار من بعيد. فقد وضع الغزواني يده على نبض الداخل قبل أي خطوة سياسية كبيرة، في وقت تتصاعد فيه أحاديث الترتيبات الانتخابية وإعادة تشكيل موازين القوى. وقدّم نفسه بصفته «رئيساً يعمل» لا «زعيماً يخطب»، وهو تمايز مقصود يهدف إلى تثبيت صورة نمط سياسي جديد قائم على الفعل لا على المزايدات، وعلى الهدوء لا على الضجيج.

رسالة أخرى، بعث بها الغزواني، وهي أنه تحدث لأول مرة عن طريقته في تدبير شؤون الحكم، وتوضيح منهجه بعد ست سنوات من الحكم بصمت وهدوء.

لقد لخّص ولد الغزواني منهجه، فأطلق من الشرق ما سماه «البرنامج الاستعجالي لتعميم النفاذ إلى الخدمات الضرورية للتنمية المحلية»، بغلاف مالي وصل إلى 260 مليار أوقية قديمة (650 مليون دولار أميركي)، وهو حزمة مشاريع تلامس مختلف جوانب الحياة اليومية للمواطنين.

ورغم مشروعه الطموح فإنه استطاع أن يقرأ ما في نفوس مواطنيه، فحدد العدو الحقيقي الذي يستحق الحرب: «الفساد»، فلم تنقصه الشجاعة ليعترف بأنه «لا يزال موجوداً»، ولكنه قال: «لا بد من حرب مفتوحة، يشارك فيها الجميع، ولا حماية لأي متورط في الفساد».

وهكذا أعلن بصراحة، أن عدوه الأول في داخل البلاد هو «الفساد».

أما الرسالة الخارجية فكانت أكثر هدوءاً، لكنها لا تقل أهمية. فالمحيط الإقليمي يعيش توترات متلاحقة: حرب السودان، واضطرابات الساحل، وإعادة تموضع قوى دولية تبحث عن نفوذ في غرب أفريقيا، وتنظيمات إرهابية تتوسع وتتطور ويزداد طموحها للنفوذ والسلطة وتجسيد السلطة. وسط هذا المشهد المضطرب، أرادت الجولة أن تكرّس صورة موريتانيا كأنها «استثناء مستقر»، ودولة قادرة على إدارة شؤونها الداخلية دون أن تكون جزءاً من الفوضى الإقليمية.

في عالم السياسة الخارجية، لا تقل هذه الصورة أهمية عن أي تحرك دبلوماسي.

لكن الرمزية وحدها لا تكفي. ففي خطابات الرئيس خلال الجولة، ظهر سعي واضح لجعل اللغة السياسية أكثر واقعية. بدل الوعود الواسعة، كان التركيز على المشكلات كما هي: البطالة، والتعليم، وضعف البنى التحتية. وهو خطاب يقترب من لغة الناس اليومية أكثر من اقترابه من اللغة الرسمية المألوفة. وهذا التحول ذاته جزء من محاولة إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها.

أثر زيارة الغزواني الواضح كان في إعادة ترتيب الأولويات. فقد بدا وكأنه يعيد تأسيس العلاقة بين السلطة والناس على قاعدة «نسمع أولاً، ثم نتحدث»، وهو أسلوب ينسجم مع منهجه منذ وصوله إلى السلطة: التدرج، وتجنب الصدْمات، والحفاظ على تماسك الداخل.

الجولة، في المحصلة، كانت لقاءً سياسياً بملامح إنسانية. لقاء يعيد للرئيس حضوره الميداني، ويعيد للناس ثقتهم بأن السلطة لا تزال تتذكرهم، ويوجه للخارج رسالة بأن موريتانيا لا تزال قادرة على حماية استقرارها. لكنها في الوقت ذاته اختبار لجديّة الدولة في تحويل هذه الوعود إلى واقع، وفي تقديم نتائج ملموسة في ملفات لا يحلّها الخطاب وحده.

فالناس الذين قابلهم، ينتظرون تغييراً حقيقياً في حياتهم اليومية. وهذا، في النهاية، هو المعيار الذي سيُحدد ما إذا كانت الجولة بداية مرحلة جديدة، أم مجرد هدنة سياسية قبل زمن آخر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد