حدث في 1973؛ في عمق صحراء النيجر وقفت شجرة تينيري وحيدة، رمزاً للصمود أمام أقسى الظروف حيث صمدت لعقود تحت شمسٍ لا ترحم ورياحٍ لا تتوقف. جذورها كانت تمتد عميقاً في باطن الأرض باحثة عن الحياة في صحراء ميتة ومميتة. ورغم هذا الصمود الأسطوري، فإنَّ لحظة استهتار واحدة أنهت وجودها إلى الأبد، عندما اصطدمت بها شاحنة يقودها سائق مخمور، فطُويت صفحة شجرة كانت تمثل إرادة البقاء رغم كل شيء. هذه الحكاية ليست مجرد قصة طبيعية، بل استعارة لمصير أمم بأكملها، والسودان واحد منها، حيث يقف اليوم عند مفترق طرق بين الصمود والاندثار.
السودان، بشعبه الذي قاوم الحروب، الأزمات الاقتصادية، والصراعات الداخلية، يشبه شجرة تينيري في صموده أمام العواصف. لكن الصمود وحده لا يكفي إذا لم يكن مدعوماً برؤية واعية وحماية من الاستهتار الداخلي والخارجي. مأساة السودان ليست في موارده المحدودة أو تاريخه المليء بالتحديات، بل في قيادات وأطراف داخلية وخارجية تتصرف وكأنها السائق المخمور، تدفع البلاد نحو الهاوية دون وعي أو مسؤولية.
الحكومات المتعاقبة في السودان لعبت دوراً مشابهاً لذلك السائق، حيث بددت الموارد، وأشعلت الصراعات، وتركت الشعب في مواجهة الجوع والحرمان. القوى الخارجية، التي لطالما تدخلت بشعارات التنمية والدعم، لم تكن أفضل حالاً فقد نظرت إلى السودان كأرضٍ غنية يمكن استنزافها بدلاً من دعمه كنظامٍ سياسي مستقر. هكذا اجتمع الاستهتار الداخلي والخارجي ليخلق واقعاً هشاً ، حيث يبدو السودان وكأنه يقف على حافة الانهيار.
تماماً كما أن شجرة تينيري لم تكن مجرد شجرة، فإنَّ السودان ليس مجرد دولة، بل هو حضارة عريقة، وجسر يربط شمال إفريقيا بجنوبها. إنه بلد يمتلك إمكانيات هائلة: موارد طبيعية، أراضٍ خصبة، ونهر النيل الذي يُعد شريان حياة. لكن كل هذه الإمكانيات تُهدر بسبب سوء الإدارة والصراعات التي لا تنتهي.
إقرأ أيضاً: سبتة ومليلية… احتلال التاريخ
الصمود الذي أبداه الشعب السوداني لسنوات طويلة ليس كافياً إذا استمر غياب الحماية الواعية من قادة يدركون قيمة السودان. كما أن جذور شجرة تينيري كانت تحتاج إلى حماية من عبث السائق، فإن الشعب السوداني يحتاج إلى قيادة تُدرك أن السودان ليس مجرد مصدر للثروات، بل هو وطن يعيش فيه ملايين البشر الذين يستحقون حياة كريمة.
الاستهتار ليس مقتصراً على الحكومات أو القوى الخارجية، بل يشمل أيضاً حالة من اللامبالاة التي قد تصيب نسبة من الشعب السوداني حين يستسلم لفكرة أن التغيير مستحيل ويصبحون جزءاً من المأساة. كما أن شجرة تينيري كانت بحاجة إلى وعي محلي يحميها من العبث، فإن السودان يحتاج إلى يقظة جماعية تدرك أن الصمود يجب أن يتحول إلى عمل.
القوى الدولية التي تدّعي مساعدة السودان كثيراً ما تكون جزءاً من المشكلة. استغلال الموارد باسم الشراكات الاقتصادية، وتسليح الفصائل المتناحرة لتحقيق مصالح استراتيجية، يُظهر أن الاستهتار الخارجي ليس أقل خطراً من الداخلي. لكن الحل لا يكمن في انتظار المساعدة من الخارج، بل في بناء نظام داخلي قائم على الشفافية والمساءلة.
إقرأ أيضاً: جزيرة سامناو: حيث تبدأ الحياة من جديد
يبقى السؤال الأهم: هل سيتعلم السودان من مأساة شجرة تينيري؟ الإجابة تعتمد على إرادة الجميع: الحكومات، القوى السياسية، والشعب. الصمود وحده لا يكفي إذا لم يكن هناك رؤية واضحة ومشروع وطني يُعيد للسودان مكانته كدولة قادرة على حماية نفسها وتحقيق تطلعات شعبها.
إنَّ السودان اليوم يشبه تلك الشجرة التي لا تزال جذورها تمتد في الأرض رغم كل شيء. لكن الجذور وحدها لا تكفي، فالسودان بحاجة إلى حماية واعية من العبث والاستغلال. فهل سينهض السودان ليكون شجرة صامدة تُلهم الأجيال القادمة، أم أنه سيتحول إلى رمز آخر لمأساة الاستهتار والعبثية؟ الإجابة ليست في يد القوى الخارجية ولا الحكومات وحدها، بل في يد كل سوداني يُدرك أن البقاء يجب أن يتجاوز حدود الصمود ليصبح بناءً ونهضة.