يخطئ من يظن أن اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والذي تم التوصل إليه مؤخراً، سيكون مقدمة لاستعادة الأوضاع في القطاع كما كانت عليه قبل الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر 2023، الذي شنته حركة "حماس الإرهابية" ضد دولة إسرائيل. فلا تكرار لتجارب الماضي هذه المرة، بمعنى أن ما كان يحدث بعد كل مواجهة بين حماس الإرهابية ودولة إسرائيل من البدء فوراً بإعادة الإعمار وحشد الموارد المالية من دول الخليج لتمويل خطط الإعمار، لن يحدث بالشكل الذي كان متعارفاً عليه سابقاً. فهناك رؤية مغايرة لإنهاء هذه الدوامة من الأزمات المتلاحقة في القطاع، لأن الكل يعرف أسبابها ودوافعها، لكن لم تتوافر من قبل إرادة جماعية إقليمية ودولية لمعالجة هذه الأسباب والدوافع. والأمر هنا لا يتعلق بتحليل أو رؤية شخصية، بل بواقع توافقت عليه الأطراف المعنية لتحقيق الأمن والاستقرار المستدام في منطقة الشرق الأوسط.
هذا التوافق يستلزم خطوات نوعية مهمة قادمة، ولكن الأمر ليس سهلاً بالمرة، فحماس لا تزال تعمل في قطاع غزة، بحسب تقارير الإعلام الإسرائيلي وشهادات الخبراء الإسرائيليين أنفسهم. ورغم الضربات العسكرية والاستخباراتية القوية للغاية التي تلقتها في هذه الحرب، فإن الشواهد تقول إن الحركة لا تزال قادرة على خوض حرب عصابات ضد الجيش الإسرائيلي حتى الساعات الأخيرة لوقف القتال. فالهزيمة العسكرية الكاملة للحركة لم تتحقق، وهو أمر مفهوم من وجهة النظر العسكرية، فلم يسبق لأي جيش، مهما بلغت قدراته العملياتية والتكتيكية، أن هزم ميليشيا أو تنظيماً في أي منطقة من العالم. فالجيش الأمريكي، بكل ما يمتلك من موارد وإمكانيات عسكرية متطورة، لم يستطع القضاء على حركة طالبان الأفغانية، كما لم تستطع القوات السوفيتية قبله هزيمة الحركة نفسها، واضطر الجيشان للانسحاب من أفغانستان. كما تطلبت هزيمة تنظيم "داعش" تشكيل تحالف دولي نجح في القضاء على التنظيم في سوريا والعراق. ولكن علينا أن نتذكر هنا أن محاولة التنظيم الانتقال من مرحلة الميليشيا إلى بناء الدولة قد أسهمت كثيراً في هزيمته عسكرياً، كونه بدأ في الظهور على سطح الأرض والعمل بشكل مكّنه من استهداف مناطق تمركزه في البلدين.
ما حققه الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة لم يخرج، إذن، عن مجمل تجارب الحروب غير التقليدية تاريخياً. وأعتقد أن هذا الدرس كان متوقعاً للجنرالات الإسرائيليين، ولكن ضخامة خسائر الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر وتداعياتها العميقة في بنية المجتمع الإسرائيلي لم تترك أي مجال سوى لمحاولة شن حرب استئصالية مبررة ضد حركة حماس الإرهابية في مختلف أرجاء القطاع. المعضلة الكبرى التي تواجه حكومة نتنياهو ليست في مواجهة تساؤلات الشارع الإسرائيلي بشأن مآلات الحرب، ولكنها تكمن في كيفية إدارة مرحلة ما بعد الحرب والسعي لضمان القضاء نهائياً على تهديدات حركة حماس الإرهابية خلال مرحلة إدارة غزة بعد الحرب. وهي عملية شاقة وممتدة قد تستغرق سنوات طويلة، وهي معركة ساحتها الأساسية قلوب وعقول الغزاويين، وتغيير نظرتهم للأمور ومنحهم الأمل في مستقبل أفضل بعيداً عن حماس.
بلا شك أن كل الخطط والأفكار المستقبلية بشأن قطاع غزة تبدأ بشكل فعلي من تحديد مصير الرهائن المتبقين وتسليمهم بناءً على الاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخراً، وذلك لأمور عدة، أهمها على الإطلاق أن حماس الإرهابية ليست واثقة تماماً من وجود الرهائن على قيد الحياة، سواء بسبب انقطاع الاتصال مع الكثير من مجموعات احتجازهم التابعة للحركة، أو بسبب وجود إعدام لبعض هؤلاء الرهائن لدى فصائل وتنظيمات أخرى. ولا يمكن أيضاً التيقن من كونهم أحياء سوى بعد ظهورهم في توقيتات التبادل المتفق عليها. ومعنى ذلك أن نقطة الحسم في مصير الاتفاق، بل وفي المرحلة المقبلة بأكملها، تكمن في مصير الرهائن، لأن المسألة هنا قد لا تتعلق بدولة إسرائيل فقط، بل بالولايات المتحدة أيضاً، التي تنتظر تسلم عدد من مواطنيها ضمن المحتجزين منذ هجوم السابع من أكتوبر. والرئيس ترامب، الذي حذر حماس من دفع ثمن باهظ في حال عدم التوصل إلى اتفاق قبل وصوله إلى البيت الأبيض، سيكون في مواجهة موقف صعب للغاية في حال اكتشاف مقتل الرهائن الأمريكيين الذين ينتظر التقاط صور تذكارية لحظة وصولهم للوطن، بكل ما يعنيه ذلك من معانٍ ودلالات لبداية ولايته الرئاسية الثانية.
بلا شك أن بقاء حماس الإرهابية في قطاع غزة يمثل التحدي الأساسي لمخططي السياسات الإسرائيلية، كما أن تغيير هيكل الحكم في القطاع ضمن خطة تحظى بتوافق إقليمي ودولي ومن دون الاضطرار إلى إعادة احتلال القطاع، بكل ما يؤدي إليه ذلك من تعقيدات وما يضيفه من عراقيل لأفكار الرئيس ترامب بشأن توسيع نطاق اتفاقات السلام بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية، يمثل هذا التغيير تحدياً استراتيجياً مهماً، ليس لإسرائيل فقط، بل للقوى الإقليمية والدولية التي ترغب في تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط عبر التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
نظرياً، هناك رفض إسرائيلي ليس لوجود حماس الإرهابية في الحكم فقط، بل لإدارة السلطة الفلسطينية للقطاع. وهناك حلول تبدو عقلانية لفترة انتقالية تقوم على خطة لإدارة مؤقتة للقطاع حتى يتم الانتهاء من إعادة هيكلة السلطة الفلسطينية وإصلاحها للتخلص من الترهلات والمفاسد التي تعاني منها، ولا يمكن لمراقب موضوعي التشكيك فيها. وفي الأخير، ليس هناك حل سهل للوضع الراهن في القطاع، ولكن مصير نحو مليوني فلسطيني يستحق المعاناة ويستحق هذا الجهد الدبلوماسي والإنساني الكبير الذي تبذله أطراف إقليمية، منها الإمارات ومصر.