إطلالة الرئيس المكلف تأليف حكومة جديدة للبنان نواف سلام، من قصر بعبدا، بعد غياب لأيام أجرى فيها استشارات واتصالات ومراجعات، أعادت الأمل إلى اللبنانيين، إذ أكد أولاً استعادة صلاحيات رئاسة الحكومة في عملية التأليف ورفض التحوّل "ساعي بريد"، وبالتالي العمل على استعادة التوازن ما بين السلطات، لأن كل خلل لا بدّ من أن ينعكس على الجميع، ولأن الظروف مؤاتية حالياً لاستعادة هيبة الموقع والدور. وثانياً تأكيده عدم التزامه توزيع الحقائب الوزارية وتخصيصها لأيّ فريق أو طائفة أو حزب وما شابه. والسبب ليس رفض إعطاء وزارة المال للثنائي الشيعي، بمقدار ما هو خوف من استعادة الماضي بما فيه من فرض واستقواء واحتكار، وهو قلق من عدم الإفادة من الفرصة المؤاتية للتغيير الإيجابي، الذي لا يتضمّن إقصاء أحد أو جهة بالتأكيد، ولكن يجب ألا يضمن لكل مكوّن سياسي احتكار وزارة إلى الأبد ومقايضة الآخرين بحصص ومصالح، بحيث تتحوّل الحكومة جبنة للتقاسم. صحيح أن الرئيس المكلف لا يمكنه إلغاء المكونات الطائفية والأحزاب السياسية، لأن حكومته المقبلة تحتاج إلى ثقة مجلس النواب الذي تحكمه تلك الزمرة نفسها، لكن يمكنه في الوقت عينه فرض مجموعة ثوابت دستورية وإصلاحية، فلا يؤتى إليه بالأسماء قبل إعلان الحكومة بدقائق، فيفقد ورئيس البلاد حق الاعتراض والرفض، بل تصير الأسماء منزلة عليهما، وعلى البلد كله. أستعيد هنا ما قاله الرئيس المكلف في محاضرة ألقاها في جمعية المقاصد الإسلامية في بيروت، مطلع آذار من عام 2023، حين انطلق من قراءته لاتفاق الطائف، ليدخل إلى الخلل والاختلالات وصولاً إلى رؤيته للإصلاح. واعتبر سلام آنذاك أن "إصلاحات اتفاق الطائف التي "طبّقت" تعّرضت للتشويه عبر الممارسات التي تلت، فأفضل تجسيد لذلك هو مصير مجلس الوزراء. فقد كان الهدف من نقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء كهيئة جماعية إيجاد حلّ عادل لمسألة المشاركة الطوائفية في الحكمولكن فَشِل مجلس الوزراء في أن يصير حقيقةً مؤسّسة دستورية لوضع السياسات أو حتى لاتخاذ القرارات". واستناداً إلى تجربته وزيراً للدفاع ثمّ للإعلام في الحكومتين الأولى والثانية بعد اتفاق الطائف يكتب ألبير منصور في "الانقلاب على اتفاق الطائف": "جميع القرارات الهامة والأساسية كانت تتخذ خارج مجلس الوزراء، ثمّ تطرح فيه للتصديق عليها. ولم يكن اتخاذ القرارات خارج مجلس الوزراء يتمّ من موقع تحضيرها لإقرارها فيه، بل من موقع إقرارها خارجه وعرضها عليه للمصادقة، لم تكن تحضيراً لقرار مجلس الوزراء بل كانت تقريراً عنه". وبعدها كان قيام ما عُرف بـ"هيئاتٍ" للحوار الوطني، راحت بدورها تتقاسم مع مجلس الوزراء مهمة "وضع السياسات" العامة للبلاد، فضلاً عن أن تشكيل الحكومات أخذ يخضع منذ اتفاق الدوحة عام 2008 لقواعد جديدة لا علاقة لها بأحكام اتفاق الطائف مثل مسألة "الثلث المعطل أو الضامن" والقول بـ"حصة وزارية" لرئيس الجمهورية بينما هو بحسب الدستور المعدّل "لا يشارك في التصويت" إن حضر مجلس الوزراء. يتبيّن لنا ممّا تقدّم خطورة الاختلالات الناتجة عن مدى كل من الانتقائية والتشويه التي تعرّض لها تطبيق اتفاق الطائف وتأثيراتها السلبية على حياتنا الوطنية. وأمام هذه الاختلالات، السؤال البديهي الذي يفرض نفسه هو "ما العمل"؟ هو السؤال الذي طرحه سلام آنذاك، وأجاب عنه "علينا العمل أولاً على تنفيذ أحكام الطائف التي لم تُنفَّذ بعد، وعلى تصحيح ما شُوّه منها عند التطبيق، وعلى سدّ ثغرات الاتفاق التي ظهرت في الممارسة. ولكن يقتضي كذلك الاستفادة من الإمكانيّات التي تختزنها المبادئ التي تكرّست بموجب الطائف في مقدمة الدستور 1992". ومن بين الحلول الذي طرحها آنذاك، عندما كان اسمه مطروحاً للرئاسة الثالثة، وتعثرت الخطوة آنذاك، "الإقلاع عن الممارسات المخالفة للدستور فلا تعود وظائف معيّنة مخصّصة لطوائف محددة، وأن يتم تغليب معايير الجدارة والكفاءة بالنسبة إلى جميع الوظائف في وعلى كلّ المستويات، مع احترام مبدأ المناصفة في الفئة الأولى وحدها. وهذا لن يغلب مبدأ المساواة بين المواطنين على غيره من المعايير فحسب، بل يساهم أيضاً في تحسين فعالية الإدارة ونوعية خدماتها، فضلاً عن وضع حدٍ للزبائنية والمحسوبية اللتين تشكلان الركيزتين الرئيسيتين للفساد والهدر فيها". لا نريد من هذا العرض تحميل الرئيس المكلف ما لا يحتمل، ولا وضعه أمام تحدي أن يكون صادقاً ومنسجماً مع نفسه، لكننا نريد أن نعلمه بأن اللبنانيين يأملون فيه خيراً، مع رئيس البلاد جوزف عون، الذي دخل قلوبهم وعقولهم، وأنعش فيهم الأمل، بخطاب القسم الذي ألقاه على مسامعهم، وهم يرون إلى الثنائي عون – سلام، خشبة خلاص. خلاص إن لم يتحقق في ظلّ الدعم الدولي المتدفق، والمتغيّرات الخارجية والداخلية، والظروف المؤاتية للتغيير، والدعم الشعبي لهما، فإن الأمل سيضمحلّ، بل إن الإحباط سيعمّ، ويحمل الكثيرين على اليأس، والتفكير الجدّي في الهجرة، إذ لن يجدوا بصيص أمل في مستقبل البلد. دولة الرئيس، لا تتراجع، لئلا تسقط. فسقوط العهد الجديد في مطلعه، نهاية حتمية لأحلام تتقلص وتضمحلّ في بلد يعيش شعبه كل أنواع المشاكل والكوارث والهزائم.
دولة الرئيس المكلّف: بحكومتك ينطلق العهد والبلد فلا تتراجع
مواضيع ذات صلة