لدى المنطقيين أمثلتهم البدهية، يستعملونها بغية الوصول إلى نتائج صارمة تضارع حلول المسائل الرياضية. على سبيل المثال «القطار لا يمشي إلا على السكّة». هذه البدهية العادية تشرح الحالة السياسية المتصاعدة في الإقليم، ثمة تنمية بدول متفوّقة، ودول أخرى غنيّة لديها الثروات والأنهار والنفط، ولكنها فاشلة تعاني من الحروب والأزمات وصراع الآيديولوجيات.
لا يمكن وضع الأمور في نصابها إلا بالعودة للمعنى الصحيح لأفكار المستقبل، لم يعد الأمر كما كان عليه في السابق، الدراسات والتوقعات تتنبأ بمستقبل مختلف تماماً عن الذي عهدناه، فالتقنية في القرن العشرين ليست كما هي عليه اليوم، وما تخبئه التقنية للمستقبل أكثر خطراً.
في يوم ترمب التاريخي للتنصيب والتسلم رأينا العديد من المؤسسين لصرعات التقنية الحديثة، دعك من إيلون ماسك فقد عيّنه من أوائل أيام انتخابه، لكن ثمة صورة تداولها المراقبون عن قناة CNN.
الصورة كانت في كنيسة سان جونز اجتمع فيها ترمب مع ملّاك شركات «أبل» و«فيسبوك» و«غوغل» و«أمازون». أما خطاب ماسك التاريخي فيؤكد النقلة التي تنتظر هذا العالم بكل ما تحمله من مفاجآت تقنية هائلة... لماذا أركّز على هذه الصورة؟!
لأن الرسالة الأساسية لترمب أنه في رحلة حكمٍ مختلفة تعتني بشكلٍ أساسي على الموضوعات التكنولوجية بكل تفاصيلها، سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو الترفيهي، وآية ذلك تصريحاته حول تطبيق «تيك توك»، وهي تصريحات ليست عدائية تجاه المحتوى، وإنما فكّر بطريقةٍ اقتصادية تخصّ الولايات المتحدة، ولو قرأنا حول الذكاء الاصطناعي والقوّة الأميركية في الاستثمار به ودراسته لذهلنا، إنها صاعقة للعالم.
بعض الدارسين يتحدّثون ساخرين عن أن الجيل الذي ولد هذه الأيام، سوف يواجه عالماً يشبه ما صنعه جيمس كاميرون في فيلمه العلمي الملحمي العميق «أفاتار»، بالطبع لو قرأنا الإمكانيات التي يمكن أن تصنعها التقنية عبر الزمن سنصاب بالذهول.
بعض مناوئي ترمب من الديمقراطيين واليساريين يتحدثون عن «نسخة ترمب الثانية»، ويستدلون على ذلك بأمرين؛ أولهما: كثافة التجربة السياسية التي خاضها وبخاصةٍ بعد أحداث العنف والشغب، كما أنه تشعّب في المجال السياسي العملي بطريقةٍ أكثر حيوية وديناميكيةً من سابقتها، وما كانت الهزيمة التي تعرّض لها هيّنة، وإنما لعبت دوراً في استراتيجياته المتطوّرة، التي تبلورت في القرارات الأربعين التي وقّعها بعد تنصيبه مباشرةً، بالإضافة إلى ذلك أن قواعد العالم تغيّرت بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وبلغ المشهد ذروته في الطرق التي انتهجها بايدن في العالم ككل، كما أن سياسات بايدن المحافظة سوف تعطيه مساحة أكثر حيويّة لاتخاذ قرارات جريئة وصادمة.
ثانيهما: أن ترمب مزج في مناظراته وخطاباته بين النمط السياسي المستحيل وبين الآخر الممكن؛ لأنه يعلم أن التحديات التي تواجهه في موضوعات الاقتصاد كبيرة، نتحدث عن عجزٍ قوامه 135 مليار دولار فقط منذ عام وهو رقم رهيب، يتطلب المزيد من التعاون مع الدول في الصفقات، ومبيعات السلاح، وتسوية العديد من الحروب سواء في أوكرانيا أو غيرها.
الخلاصة؛ أن المشهد أكبر مما نتخيل، وأميركا قادرة مع ترمب على فرض أنماطٍ سياسية أكثر جديّةً في مسائل عديدة لإنهاء المشكلات التي تعيد للاقتصاد حيويّته، ثمة دول فاشلة ومنظّمات إرهابية، وسياسات فكرية صاعدة لا بد من التعاون من أجل تفكيك بنيتها المالية - كما قال في كلمته - من أجل تصويب المسار، وهو قادر على ذلك، من دون هذا المستوى من الجدية في ضرب ولجم الأزمات الحاليّة لن نصل إلى مستوى حيوي مطلوب، فالجديّة بالتعامل مع الحدث أياً كان ضرورية.