بالرغم من العلاقات الثنائية الوثيقة بين أنقرة وموسكو، والتي يواصل الطرفان العمل على تطويرها في مختلف المجالات، لتتوج مؤخراً بتقديم تركيا طلباً لعضوية مجموعة بريكس، ودعوتها لحضور القمة السنوية لقادة المجموعة التي ستقام في مدينة كازان بجمهورية تتارستان الروسية، إلا أن الغرب، وعلى رأسه أميركا، لا ينفك عن سعيه لتوريط تركيا في النزاع المسلح في أوكرانيا.
يحصل ذلك تارة عبر حملات ضغط مكثفة، وطوراً عبر الالتفاف على ثبات أنقرة على موقفها الرسمي المحايد إزاء النزاع، ورفضها التماهي مع سلسة العقوبات الغربية على روسيا، من خلال التعاقد مع شركات تركية خاصة لتزويد أوكرانيا بالسلاح وسائر المنتجات العسكرية التي تحتاج اليها كييف بشدة، خصوصاً مع ازدياد حراجة موقف قواتها المسلحة في الميدان.
مواد كيميائية ومتفجرات
أحدث الإبداعات الأميركية في هذا الصدد، يتمثل بالتعاقد مع شركة "بوزيتيف غروب" للمواد العازلة والكيميائية والصناعات الدفاعية التركية (Pozitif Group İzolasyon Yalitim Savunma Sanayi Ve Ticaret Limited Şirketi)، لتزويد أوكرانيا بأطنان من المواد المتفجرة، بما فيها مادة TNT ومادة PEP – 500 البلاستيكية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، على أن تحصل هذه الشركة على المواد المتفجرة من دول أوروبا الشرقية، وبشكل قانوني، استناداً إلى امتلاكها التراخيص القانونية من الحكومة التركية لاستيراد وتصدير مجموعة واسعة من المنتجات العسكرية.
تعد هذه الشركة إحدى الشركات الفاعلة ضمن شبكة شركات الصناعات الدفاعية التركية، ومقرها الرئيس في العاصمة التركية أنقرة، في شارع رقم 1409 بمحلة بالغات في مقاطعة تشانكايا ذات الرمزية المؤثرة في التاريخ التركي المعاصر، حيث يوجد القصر الرئاسي التاريخي الذي أقام به مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
وبالرغم من أن نشاط الشركة الرئيسي هو في المواد العازلة والكيميائية، إلا أنها تنتج أيضاً بعض المواد المخصصة للاستخدامات العسكرية، وخصوصاً المتفجرات التي تشكل المواد الكيميائية الأساس الذي تصنع منه. ويتولى إدارتها ثلاثة مواطنين أتراك، يحمل كل واحد منهم صفة "شريك مؤسس": عدنان غوندوز، إردام غولان، أفق أوتكو، والذين يتمتعون بخبرة مهنية واسعة في مجال الكيميائيات والمنتجات المرتبطة بها.
مسار التفافي
تشير المعلومات والتسريبات الإعلامية إلى أنَّ المواد المتفجرة هذه مخصصة لاحتياجات القوات المسلحة الأوكرانية، والتي تلح قيادتها وحكومة كييف كثيراً من أجل الحصول عليها، بهدف استخدام المواد الكيميائية في إنتاج القذائف، خصوصاً من عيار 155 ملم. بالإضافة الى استخدام المتفجرات ضد الجيش الروسي الذي يواصل تسجيل تقدم ميداني في المناطق الشرقية على نطاق واسع ومتدرج، دون أن تنجح الأسلحة الأميركية والغربية النوعية التي جرى إمداد الجيش الأوكراني بها بصورة عاجلة في الأسابيع القليلة الماضية في إيقاف التقدم الروسي، أو على الأقل الحد منه.
تميل الآراء في مراكز صنع القرار في أميركا والعديد من الدول الأوروبية الفاعلة الى اعتبار المناطق الشرقية في حوض الدونباس بمثابة الساقطة عسكرياً. وهذا ما دفع بواشنطن الى العمل على تزويد كييف بالمواد المتفجرة، لتحويل المناطق الشرقية الى أراضٍ محروقة، الأمر الذي يشكل خرقاً فاضحاً للقوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان التي تدعي أميركا احترامها والدفاع عنها.
كذلك، تشير المعلومات والتسريبات الإعلامية الى أن الشركة التركية لن تزود كييف بهذه المتفجرات بطريقة مباشرة، بل عبر أسلوب التفافي، من خلال المرور بالدول الأوربية المجاورة لأوكرانيا، في محاولة لتضليل المراقبين وإبعاد الشركة التركية عن المساءلة القانونية من قبل السلطات التركية، بسبب خرقها للموقف الرسمي لأنقرة.
نهج أميركي خبيث
ليست هي المرة الأولى التي تعتمد واشنطن على الشركات التركية لتزويد أوكرانيا بالسلاح والمتفجرات والمواد العسكرية الضرورية لإنتاج القذائف. في 30 آذار (مارس) الماضي، كشف تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتفاوض مع عدد من المنتجين الأتراك لمادتي TNT ونيتروغوايدين، وتساعدان في زيادة إنتاج القذائف من عيار 155 ملم بمقدار ثلاثة أضعاف.
كذلك، كشفت بلومبيرغ في التقرير عينه أنَّ شركة الصناعات الدفاعية التركية Repkon ستنتج حوالى 30 بالمئة من القذائف المدفعية عيار 155 ملم في أميركا بحلول عام 2025، فضلاً عن شراء البنتاغون 116 ألف قذيفة من شركة Arca Defense التركية، المقرر استلامها خلال العام الجاري، ومن ثم إرسالها الى الجيش الأوكراني.
كان بإمكان واشنطن اعتماد وسائل وحلول أخرى لتزويد أوكرانيا بالسلاح، لكنها تتعمد وبخبث شديد التعاقد مع شركات تركية خاصة، بهدف توريط أنقرة في النزاع رغماً عنها، مستندة في ذلك الى قوانين السوق والعرض والطلب، وإغراءات الربح الوفير الذي تطرحه صفقات من هذا النوع على الشركات المعنية، مظللة بمسار غير مباشر لتوريد هذه المنتجات العسكرية الى أوكرانيا.
بيد أن الخبث الأميركي يتبدى من خلال تسريب هذه الصفقات ومساراتها نحو كييف عبر إعلامها، من أجل إلحاق الضرر بالعلاقات التركية – الروسية. وهذا ما يدفع بأنقرة الى الضغط على شركات الصناعات الدفاعية المقربة من حكومة العدالة والتنمية من أجل عدم التورط في صفقات من هذا النوع. بالتوازي مع العمل المكثف مع موسكو لإزالة الالتباسات، والحؤول دون تأثير هذه الصفقات على تطور العلاقات، والذي ينعكس إيجاباً على المصالح المشتركة للبلدين في مختلف المجالات.