: آخر تحديث

ماذا تعني «طبخة نيروبي» للسودان؟

2
2
2

في أجواء بعيدة تماماً عن الصخب الاحتفالي الذي صاحب توقيع ميثاق «تأسيس» بين «قوات الدعم السريع» وعدد من الحركات والشخصيات الحزبية والمدنية في نيروبي الشهر الماضي، أعلن أول من أمس عن توقيع هذه المجموعة على ورقة دستور انتقالي ينص على العلمانية، وتشكيل جيش جديد قوامه «قوات الدعم السريع»، وإعادة تقسيم البلد إلى 8 أقاليم ومنحها حق تقرير المصير في حالات معينة.

غابت الأجواء الاحتفالية لأن حكومة الرئيس الكيني ويليام روتو أثارت غضب واحتجاج السودان، وواجهت انتقادات داخلية من سياسيين وناشطين رفضوا احتضانها لاجتماعات «قوات الدعم السريع» وحلفائها بسبب سجل هذه القوات في الانتهاكات، ولأن استضافة الاجتماعات في نيروبي تؤسس لسابقة خطيرة في دعم مجموعات تسعى لتشكيل حكومة موازية، ما يعني انتهاكاً صارخاً لسيادة دولة أخرى وبما يتعارض مع كل المواثيق الدولية والإقليمية.

الواقع أن «طبخة نيروبي» برمتها تبدو وكأنها محاولة لإعطاء زخم لـ«قوات الدعم السريع» والتغطية على الهزائم المتلاحقة التي تلقتها ومعها فقدت مواقعها في الجزيرة وكل وسط البلاد والمناطق الأخرى في تخوم الشرق والجنوب، ثم في الخرطوم، حتى لم يتبقَّ لها سوى رقعة سيطرتها في دارفور وجيوب في كردفان. ومع هذه الهزائم تحركت قيادة «الدعم السريع» مع داعميها لكسب حلفاء جدد وتحديداً الحركة الشعبية (شمال) بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور. وبينما نجحت الجهود مع الأول وفق شروطه، فإنها ظلت متعثرة مع الثاني.

ومع تهافت قيادة «قوات الدعم السريع» وحلفائها ومحاولتها كسب الحلو بأي ثمن، فإنه فرض شروطه ووضع بصماته واضحة في وثائق نيروبي. فإضافة إلى أفكاره في موضوع العلمانية الذي ظهر كمعلم أساسي في ورقة الدستور، ظهرت بصمته في النص المتعلق بإعادة تقسيم ولايات السودان وتوزيع بعض المناطق. وما إن انتشر أن ورقة الدستور تضمنت إلغاء ولاية غرب كردفان وتوزيع محلياتها بين ولايتي شمال وجنوب كردفان (التي سيصبح اسمها إقليم جبال النوبة)، حتى تفجرت أزمة وارتفعت احتجاجات من أبناء غرب كردفان.

ورقة الدستور الانتقالي هذه يفترض أن تعقبها خطوة تشكيل الحكومة الموازية التي يقولون تارة إنها لتسهيل الخدمات للمواطنين في مناطق سيطرة «الدعم السريع»، وتارة أخرى يقولون إنها لمنازعة الشرعية مع الحكومة القائمة الآن، ثم يخرج بعض أنصارها ليقولوا إنها نواة لسودان جديد يقوم على أنقاض ما يسمونه دولة 56 (أي دولة الاستقلال).

لا أدري ما هي الشرعية التي يريد أنصار الحكومة الموازية الاستناد إليها؟ هل التدمير والقتل والاغتصاب والنهب وتشريد المواطنين من بيوتهم يعطي مشروعية؟

حتى الحديث عن منازعة الشرعية لا يقف على ساقين إذا أخذنا في الاعتبار المناظر المتكررة من مناطق مختلفة للشعب الذي يهتف «جيش واحد... شعب واحد»، ويحتفل كلما تحررت منطقة من سيطرة «الدعم السريع».

في هذا الصدد يمكن ملاحظة أنه في الوقت الذي كانت فيه مجموعة نيروبي توقع ورقة دستورها الانتقالي، كان الفريق عبد الفتاح البرهان يشارك في القمة العربية الطارئة في القاهرة ممثلاً للسودان وبصفة رئيس مجلس السيادة، ورئيس الحكومة التي يتعامل معها العالم، بما يعني أن أي حكومة موازية لن تجد اعترافاً. وقد بادرت دول عدة من بينها السعودية ومصر وقطر والكويت والأردن والصومال وتركيا إلى إعلان رفضها لمثل هذه الحكومة الموازية، بينما أعربت أميركا وبريطانيا والأمم المتحدة عن قلقها من أي محاولات تعقد الأزمة وأكدت دعمها لسيادة السودان ووحدة أراضيه.

يبقى أن دارفور ذاتها التي راج أن طبخة نيروبي تريد سلخها في مشروع لتقسيم السودان، ليست كلها تحت سيطرة «قوات الدعم السريع» أو موالية لها، وستقبل بحكومتها. فـ«الدعم السريع» تاريخه ملطخ بالدماء في دارفور، وجرائم دفن أبناء المساليت أحياء ليست بعيدة عن الأذهان، ولا قتل أبناء عدد من أبناء مكونات بعينها، وهو ما شهدت عليه المنظمات الدولية، ودفع عدداً من الدول إلى إدانة هذه القوات بجرائم ضد الإنسانية، والإبادة والتطهير العرقي. أضف إلى ذلك أن هناك عدداً من حركات ومجموعات دارفور تصطف ضد «الدعم السريع» وتقاتل في صفوف الجيش.

الواقع أن الحكومة الموازية إن رأت النور لن تحقق الاختراق الذي يأمل فيه أصحاب فكرتها، ولن تجد الاعتراف الذي تحلم به. أهم من ذلك فهي لن توقف زحف الجيش إن لم تزده إصراراً على انتزاع بقية المناطق والتعجيل بنقل المعركة إلى مناطق سيطرة الدعم السريع في دارفور.

يبقى أنه إذا كانت هناك من فائدة لطبخة نيروبي، فهي أنها كشفت المستور ووضعت آخر الأوراق على الطاولة. الآن تمايزت الصفوف، وظهرت حقيقة ودوافع مَن يدعم، ومَن يستضيف، ومَن يمول، ومَن يؤيد المؤامرة على السودان، وهي مؤامرة في طريقها إلى الهزيمة مع تقدم الجيش وحلفائه، واصطفاف الشعب، أو فلنقل غالبيته خلفه في هذه المعركة المصيرية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.