من أصعب الأشياء أن ترى وطنك يسافر في قطار بلا محطة وصول! والأكثر صعوبة أن تظل منتظراً لحظة وصول هذا الوطن إلى المحطة المنشودة.
منذ عشر سنوات، على الأقل، تحرك قطار الدولة الليبية، بحثاً عن محطة آمنة، ركابه من كل الأطياف السياسية، والاجتماعية، والجهوية، لكن يبدو أن بوصلة القطار أصابها انعدام الرؤية الصحيحة، فلا تزال ليبيا في حالة سفر، وتحتاج للعودة إلى محطة الذات؛ ذات الدولة الوطنية بكل أطيافها، كفى عشر سنوات من التيه والسير عكس الاتجاه.
استوقفني لقاء القاهرة في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) 2025 الذي جمع رئيس مجلس النواب الليبي ورئيس مجلس الدولة، في حوار مفتوح وحيوي يتسم بالنية الخالصة من أجل إيقاف حالة السفر الدائمة هذه، وبحثاً عن توافق وطني يعيد مؤسسات الدولة إلى قوتها وحيويتها، ولا يستثني أي تيار أو أي منطقة جغرافية، وتأكيداً على توحيد المؤسسات، بدءاً من الحكومة التي من الواجب أن تكون واحدة جامعة مانعة، وتوحيد المؤسسة العسكرية، والبنك المركزي، ورسم ملامح وطنية على وجه الدولة الليبية.
حين قرأت تصريحات رئيس مجلس النواب، المستشار عقيلة صالح، قلت لنفسي ها هي ليبيا تستعد للعودة من السفر الطويل؛ فالرجل قال إنه يريد أن يكون التوافق الشامل في جميع مؤسسات الدولة هو القانون الحاكم، ولفت نظري أنه قال بوضوح إنه يجب أن تكون إدارة الحالة الليبية شأناً داخلياً، وإنه يجب ألا تكون هناك تدخلات خارجية، لا سيما أن بعض القوى الخارجية لا تريد الاستقرار في ليبيا؛ لأسباب شتى، منها المطامع والمطامح في الثروات الليبية، وتأكيد النفوذ في منطقة الشرق الأوسط التي باتت رهينة لتصادم الخرائط في لحظة تصفية الحسابات الاستراتيجية الدولية.
ليبيا رقم مهم في ذات اللحظة العالمية، وأيضاً رقم أكثر أهمية في مفردات الأمن القومي العربي، ولديها إطلالة شاسعة على البحر المتوسط تفتح شهية القوى الإقليمية المجاورة للعرب، وحتى القوى البعيدة غير المجاورة للعرب.
ولعلني أؤكد هنا أن الأطياف السياسية الليبية واعية ومدركة لهذه الأخطار، تجلى ذلك في لقاء القاهرة حين وضع رئيسا المجلسين - النواب و«الدولة» - كل الملفات المسكوت عنها والشائكة والمعقدة على الطاولة بوضوح، وهنا ألمح أن قطار الدولة الليبية قد يصل إلى محطته الصحيحة، لكن الأمر يحتاج إلى عدة ضرورات وطنية، يأتي في مقدمتها:
الإيمان الكامل من كل الأطراف الليبية بالوحدة الوطنية والاجتماعية والاقتصادية، والوحدة السياسية، واحترام مقدرات الشعب، والحفاظ على ثرواته، وحماية أمنه القومي، وتأكيد حكم القانون والدستور، ونزع سلاح الميليشيات، وشطب التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية من الوجود الليبي، وتحصين التربة الليبية من السموم العابرة للحدود، فقد جرب الليبيون التعايش والتكيف مع هذه السموم سنوات طويلة، ولم يجدوا الاستقرار أو الدولة، وحان الوقت للاستشفاء من هذه الآفة التي أصابت المنطقة إبان ما يسمى «الربيع العربي».
ثاني هذه الضرورات هو إدارة الملف الاقتصادي بشكل مؤسسي حكيم، يتناسب مع مقدرات ليبيا النفطية، وثرواتها الأخرى، حتى يشعر الليبيون بالاستقرار الإنساني والاجتماعي، بدلاً من حالة الافتراق والتشظي، والسباق نحو عدم الاستقرار من أجل مصالح جهوية، ومناطقية، أثبتت التجارب أنها تقود البلاد إلى الهاوية.
ثالث الضرورات أيضاً هو أنه لا بد من قراءة المتغيرات الاستراتيجية على المسرح الدولي، فلا شك أن هناك متغيرات عميقة وغير مسبوقة، سواء على صعيد الإقليم العربي وتمزيق خرائطه، أو على المستوى العالمي وتغيير وجهة القوى العظمى لسياساتها العميقة تغييراً حاداً، كما يجري في الولايات المتحدة الأميركية التي تبحث عن أميركا أولاً، وفي ظل ذلك لا يوجد سوى الذات الوطنية التي يجب أن نبحث عنها، ونعيد ترتيبها طبقاً لمصالحنا العربية، وفي القلب منها المصلحة الليبية، وهنا لا بد أن يفتح الليبيون لأنفسهم إشارة المرور للقطار الليبي، حتى يقود للعودة إلى محطته الأصلية، قبل أن تتنازعه أهواء محلية وإقليمية ودولية.
اللحظة مواتية، والفرصة لن تتكرر كثيراً، وأخشى أن يظل القطار الليبي ماضياً بلا وجهة معروفة، أو أن يستقله ركاب غرباء في لحظة الافتراق الوطني.
وليبيا تمتلك إرثاً سياسياً وثقافياً غنياً يشكل هويتها عبر العصور، بداية من حضارات الإغريق والرومان إلى الحضارة العربية، والإسلامية. هذا الإرث لم يكن مجرد تاريخ، بل كان عاملاً في تشكيل القيم الليبية القائمة على التعددية والتسامح والارتباط بالأرض.
وتمثل وحدة الليبيين الآن ضرورة ملحة للحفاظ على هذا الإرث الكبير، وتحميه من التمزق، وتشكل ضرورة أيضاً لاستلهام القيم السياسية والاجتماعية من التاريخ الليبي الحي، وهو استلهام يمنح الأجيال الليبية حافزاً لبناء المستقبل الذي يقوم على الحوار والتنمية، وهنا تصبح الثقافة والتاريخ المشترك جسراً للوحدة، بدلاً من أن يكونا بؤرة للخلاف والصراع.