حتى هذه اللحظة كنتُ لا أُصدِّق ما يجري على جبهة العلم من تُرَّهات وخُزَعبلات ونفاق مستتر ومستمر، لولا ما شاهدتُه بعينيْ رأسي، وعاصرته في الواقع المُعاش، وما رأيته في الكثير من المؤتمرات التي تشعر، منذ الوهلة الأولى، أنه (مسلوق) في قِدْر الضغط السريع، وأن وراءه طباخًا يُجيد فنَّ التلاعُب بالعلم بطريقةٍ غير أخلاقية، وإرضاء المؤسسة التي يعمل بها نفاقًا، بغضِّ النظر عن المحتوى العلمي للمؤتمر، ورصانة محتواه وفائدته للمجتمع.
مؤتمرات تتناسل بطريقة غريبة وعشوائية، تُشبه تناسلَ الفاسدين والمفسدين في أوطاننا؛ هنا فساد علمي خميرته صناعة الوجاهة المزيَّفة، واللعب على الذقون، والتزلُّف المريض للأعلى، وهناك فسادٌ ماليٌّ يسرق كل شيء من جيوب العباد.
كلاهما فاسد بمقاييس النزاهة والرجولة، لكن الأخطر هو فساد جبهة العلم، حيث تلويثُ العقول، وتلوينُها بألوان الخداع والتضليل وسحْقُ ما تبقَّى من أمنيات العلم، وتربية الأجيال. صارت صناعة المؤتمرات أبسط من عمل الكشري والآيس الكريم، وصارت المشاركة... على الماشي!
ما يحدث في دنيا المؤتمرات العلمية يُثير الفزع والاستغراب والاشمئزاز! حيث الصواعق والمواحق من النوع الثقيل، وافتقاد البصيرة العلمية فيها؛ فترى (الجن) العلمي حاضرًا يبث خُزعبلات المعلومات المغلوطة والمكررة والمستهلكة التي لا روحَ فيها، وترى الباحث يتهجى المعلومات وكأنه يقرأ نشرة للأخبار ، وتُصدم ببحوث مُكررة ومجترَّة لا يجري في شريانها دم ولا حياء!
ثم تسمع كلمة (الاستراتيجية) بين فقرة وأختها، وكأنها ملاذٌ آمنٌ يحتمي به الباحث لضعف قدراته وفقر موهبته؛ حتى تشعر بأنها فقدت معناها الرصين، لتصبح واحدةً من نوادر جحا!
ترى العجب العجاب من أول فكرة لصناعة المؤتمر؛ من العناوين الطويلة المليئة بالسجع و(هجع) الألفاظ! تقرأها وكأنك قرأت مِراراً عنها من قبل في قائمة المؤتمرات السابقة، أو مرت عليك في بطون كتب الأدب، مُرصَّعةً بفكرة الحداثة الكاذبة.
وقصة المؤتمرات ما زالت في البداية، فنحن أمام كوارث من النوع الثقيل، فصارت الجامعات والمؤسسات تبتكر الوجاهة العالمية تحت لافتة المؤتمر العلمي أو الدولي، فتجلب لنا (خُردةَ) الباحثين و(مُخاطَهم) من أوربا أو آسيا، وتقدمهم على أنهم أفذاذ العالم! وعندما تتتبع سيرَهم العلمية وجامعاتِهم؛ فإنك تصطدم بمؤهلاتهم وحياتهم العلمية؛ بل إن بعضهم ما زال يحبو في طريق العلم الطويل، أو هو على مقاعد الدراسة ينتظر الحصول على الدكتوراه!
إقرأ أيضاً: حياتنا من خشب
هناك فساد مستتر في العالمية، وعلاقات خفية بين أصحاب المؤتمر والباحثين -أشقرهم وأصفرهم-، علاقات انتهازية ومصلحية مستيقظة ونائمة، وهناك عقدة (الأجنبي) التي ما زالت تلعب برؤوسنا، فكل ما يهمنا أن يكون أشقراً ذا عينين زرقاوين، وأن يكون المؤتمر العلمي مطرَّزًا بحروف (الدولية)، ومعطرًا برائحة (الأجنبي) حتى ولو كان علميًّا من المفلسين.
صارت مؤتمراتنا نزهات لملء البطون، وجولات سياحية ترفيهية لتفقُّد الرعية وأماكن التسلية، ووجاهة للمؤسسات والجامعات؛ لكي تختصر حضورها بخداع البصيرة والعقل، وتكسب مباراة العلم بحَكَمٍ مزوَّر لا يعرف للنزاهة ولا لقوانين العلم الفاضلة عنوانًا!
وعندما تبحث: ستجد داخل المؤتمرات قصصًا أخرى؛ حيث تسمع شخير الحضور يتناغم مع صوت الباحث كمعزوفة موسيقية لملحن مجهول! وسترى أعدادًا أخرى تستمع بضجر وتأفف، وستقابل أكثرَهم خارج القاعة يتناولون الشاي والقهوة والحلويات، ويتناقشون في موضوع زيادة الرواتب، ومشاكل العائلة، ولحم كباب أربيل، وتقطيع أوصال الباحثين بالنميمة!
إقرأ أيضاً: الكتابة بالومضة الصحفيّة
وسترى مهرجانًا من نوعٍ آخر، أغرب من المؤتمر ونتائجه، حيث توزع شهادات تقديرية بالجملة، وتُمنح دروعٌ للابتكار والإبداع لكلِّ مَن هبَّ ودبَّ من باب الترضية والنفاق، وكأننا نعيش في ضوضاء سوق الصفافير!
شخصيًّا، ما عُدت أستهوي ولا أقبل المشاركةَ في مثل هذه المؤتمرات إلا ما نَدر، ليس من باب الاستعلاء العلمي؛ وإنما ترضية للضمير للابتعاد عن صناعة الكذب والتضليل، وتفرُّغًا لما هو مفيد. لقد وجدت ما هو أقرب لهذه المؤتمرات وهي متابعةً توقعات وخرابيش ما يقوله "الدكتور" أبو علي الشيباني حول موعد ساعة القيامة!!