وسط تقارير إعلامية كثيرة متداولة حول مواقف الأطراف الدولية والاقليمية تجاه السيناريوهات المتداولة حول مستقبل قطاع غزة في مرحلة مابعد انتهاء الصراع، تنحصر التساؤلات وعلامات الاستفهام الأساسية حول من يمول خطط إعادة إعمار القطاع، ومن هي الأطراف التي يمكن أن تكون "مقبولة" من الجميع وتشارك في إدارة العملية الانتقالية. في هذا الإطار تدور نقاشات معمقة، وتطرح وجهات نظر متباينة.
الولايات المتحدة ترى أن السلطة الفلسطينية يمكن أن يكون لها دور في مرحلة مابعد الصراع، بدعم ومساندة تمويلية من دول خليجية، بينما تستبعد إسرائيل، على الأقل فيما نشر من تسريبات إعلامية، أي دور للسلطة، وترى حكومة بنيامين نتيناهو أنها الوجه الآخر لحركة "حماس"، مع اختلاف التكتيكات ووحدة الأهداف، والقاسم المشترك بين وجهات النظر جميعها يتمثل في أي الجميع يرغب بالحصول على تمويل خليجي لخطط إعادة الإعمار في قطاع غزة.
ماسبق يشير إلى أحد أهم الملفات التي ستواجه الجميع إقليمياً في ظل وجود نحو ثلاث مائة الف نازح فلسطيني في قطاع غزة من دون مأوى، يتعين تدبير معيشتهم بشكل انساني في اليوم التالي لانتهاء الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس، وهو ملف بالغ التعقيد والخطورة والحساسية في آن معاً، ناهيك عما يطرحه من تحديات صعبة على المستوى الانساني والأخلاقي، ولكنني أرى أنه ليس الملف الوحيد الخطير الذي يتعين على الجميع النظر إليه في هذه المرحلة.
هناك أيضاً ملف التعايش والسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، حيث تبرز هنا معضلة كبرى وهي أن ما حدث في غزة على مدار نحو شهرين ونصف قد أعاد منطقتنا إلى المربع الأول لجهة العداء بين بعض العرب والمسلمين من جهة وإسرائيل من جهة ثانية، وهذه الجزئية لا يجب أن نغفل عنها، بل هي ملف غير قابل للتأجيل والتسويف لسبب بسيط هو أن تجاهل هذه الحقيقة يعني أننا نغض الظرف عن بيئة عدائية مشحونة بالكراهية وقابلة لأن تعمل كنقطة جذب هائلة لأفكار التطرف والارهاب التي تروج لها تنظيمات لا تزال تنشط في بؤر جغرافية عديدة سواء في داخل المنطقة أو خارجها.
اليوم التالي للحرب هو اليوم الذي يمكن أن تبدأ تنظيمات الارهاب فيه العمل من أجل مواصلة النفخ فيما بدأته "حماس"، ولكن قد لا يقتصر الأمر هذه الأمر على إسرائيل، بل يشمل نطاقاً واسعاً من الأهداف التي تشمل دولاً عربية وأخرى غربية، بدعوى مساندتها لإسرائيل، أو الصمت أو ما يصفه مؤيدي الجماعات الراديكالية الشرق أوسطية بخذلان الشعب الفلسطيني ودعم إسرائيل، ما يعني أننا قد نواجه ـ على الأرجح ـ موجة جديدة قد تكون أشد وطأة من التطرف والارهاب، وانحساراً هائلاً لثقافة التعايش والسلام والاستقرار، الأمر الذي يتطلب أن ينتبه له الجميع، لأن الصراع الدائر الآن بات ينحو إلى الشعبوية والاستقطاب ودغدغة مشاعر الشعوب بعيداً عن حسابات العقل والمنطق وقواعد الاستراتيجية التي تدار بها الدول ومصالح الشعوب، وخير مثال على ذلك ما تفعله جماعة "الحوثي" التي تدرك تماماً أن تعريض أمن التجارة العالمية في البحر الأحمر لن يفيد الضحايا المدنيين في غزة، بل يسهم في تأليب الرأي العام العالمي ضد العرب والمسلمين، ويصب بمصلحة السردية الإسرائيلية القائمة على تعرض أمن إسرائيل لتهديدات وجودية تضطرها للدفاع عن نفسها.
ندرك تماماً أن الحديث عن ثقافة السلام والتعايش ليس مطروحاً في الوقت الراهن، وأنه لا أحد يرغب في هذا الحديث في ظل دوامة العنف وسفك الدماء في قطاع غزة، ولكن هذا لا ينفي خطورة عدم الانتباه إلى أن الاستسلام للأجواء الصراعية التي تخيم على المنطقة ستكون عواقبه وخيمة على العالم أجمع وليس على دول المنطقة وشعوبها فقط.
ندرك أن هناك صراع دفين وشرس في منطقتنا بين دعاة التعايش والسلام من ناحية، ودعاة الصراع والحروب وسفك الدماء من ناحية ثانية، ولكن لا يمكن انكار أثر حرب غزة التي ستغير وجه المنطقة والعالم لسنوات وعقود طويلة قادمة، أو تجاهل الفكرة القائلة بتأثر حياة ملايين البشر في دول المنطقة بما يحدث الآن وما ستؤول إليه الأوضاع في غزة، ما يجعلنا نؤكد أن كسب الحرب ضد التطرف والارهاب والتحريض والكراهية بات يمثل تحد كبير ومعركة الضرورة التي فرضت على المعتدلين في منطقتنا جميعهم، ولا خيار سوى الانتصار فيها، ولكن كسب هذه المعركة يتطلب تضافر الجهود من أجل ايجاد ضوء في نهاية النفق للشعب الفلسطيني كي يعيش بأمان جنباً جنب مع الشعب الإسرائيلي، وكي ننزع حجج نشر الفوضى والاضطرابات وزمام المبادرة من بين أيدي ومن على ألسنة دعاة التطرف والعنف والارهاب.