تحوّل الحديث عن أسعار السلع في لبنان، خصوصاً المواد الغذائية، إلى مادة للدهشة المتواصلة. فكلّ يوم، ارتفاع مطرد بالأسعار، يثير الصدمة في صفوف المستهلكين، حتى باتت الدهشة وكأنها شعور في غير مكانه، مع العجز عن مواكبة تبدّل الأسعار مع ارتفاع سعر صرف الدولار.
تخفيفاً عن كاهل موظفي السوبرماركت، قررت وزارة الاقتصاد، بناء على طلب التجار وأصحاب المتاجر، تسعير السلع بالدولار.
في تعليله للقرار قال وزير الاقتصاد أمين سلام، إنه سيؤدي إلى اعتماد شفافية أكبر في تسعير السلع، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن يُترك اللبنانيون للعشوائية وقلة الإدارة والدراية.
الأمر في غاية البساطة لولا أن الأغلبية الساحقة في البلاد تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية.
المشهد سيكون كالتالي: عندما يتوجه أحدهم لشراء علبة لبنة من متجر لبناني، يمكن أن يكون سعرها على سبيل المثال أربعة دولارات. يُمكنه أن يختار الدفع بالدولار أو بالليرة اللبنانية، حسب سعر صرف الليرة مقابل الدولار عند لحظة الدفع.
المشكلة أن سعر الصرف يتغيّر عدة مرات في اليوم الواحد، وبالتالي يمكن أن يتبدّل ثمن علبة اللبنة بالليرة اللبنانية بين لحظة وأخرى، بينما يبقى ثابتاً عند أربعة دولارات، لمن يختار الدفع بالعملة الخضراء.
فعلياً يكرّس هذا الإجراء الاعتراف بإدمان الاقتصاد اللبناني على الدولار، لا بل يُعطي هذا الإدمان شرعية جديدة.
كما أنه إقرار بأن لا خطة في الأفق لإرساء استقرار لسعر صرف الليرة مقابل الدولار، وبالتاليمن المتوقع أن يواصل سعر الدولار التقلّب، ارتفاعاً في معظم الأحيان، على المدى المنظور.
كما يُمكن اعتبار اعتماد الدولار للتسعير دليلاً إضافياً على مدى انفصال النموذج الاقتصادي عن السياسات المعيشية.
الدولار الجمركي
قرار آخر يُعزز هذه الاستنتاجات. فبين ليلة وضحاها، وبشكل مفاجئ ودون أي منطق مالي مُعلن، وافق رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، على رفع قيمة ما يُسمّى بالدولار الجمركي ثلاثة أضعاف.
لا بدّ من شرح معنى "الدولار الجمركي" الذي يُعتبر من مصطلحات الأزمة المالية وتبعاتها، وأحد أسعار صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية المعتمدة في البلاد.
يشير "الدولار الجمركي" إلى السعر المُحدد لاحتساب الضريبة الجمركية للبضائع المستوردة، مع استثناء المواد الغذائية.
ارتفعت قيمة هذا الدولار من 15 ألف ليرة لبنانية إلى 45 ألف ليرة، وهو ما سيؤثر تلقائياً على أسعار عدد كبير جداً من السلع.
سبق هذا الارتفاع الأخير، ارتفاع أول في قيمة الدولار الجمركي من 1500 ليرة لبنانية إلى 15 ألف ليرة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
لكن ذاك الارتفاع سبقه تحضير للرأي العام في الإعلام لأسابيع طويلة. هذه المرة لم يحدث أي من ذلك وكأنه بات هناك تطبيع مع فكرة الارتفاع المتواصل بقيمة كل شيء، والتوقع الدائم بأن كل ما هو بالليرة اللبنانية خاضع لمنطق المضاعفة في أي وقت ومن دون أي سقف.
فعلياً يُمكن وصف ما يحدث في البلاد بالحلقة المفرغة.
قبل أشهر، رفعت قيمة صرف الدولار الجمركي لتأمين مداخيل إضافية للدولة التي زادت أجور موظفي القطاع العام.
لكن سرعان ما قضم الانخفاض المتواصل في قيمة الليرة من حجم تلك الزيادة، فعادت الدولة لتزيد قيمة الدولار الجمركي ثلاثة أضعاف لتأمين مداخيل إضافية لخزينتها، قد تُستخدم لإعادة النظر في أجور تتآكل مع انخفاض قيمة الليرة. وهكذا دواليك.
هذا ما يحدث عندما يكون التعامل مع واحدة من أكبر الأزمات المالية والاقتصادية في العالم، بالمسكنات فقط.