إيلاف من أصيلة: على مدى اليومين الماضيين وأربع جلسات، نجحت ندوة "الرواية العربية والخطاب البصري"، التي نظمت ضمن فعاليات منتدى أصيلة الـ44، في فتح النقاش الثري حول العلاقة المفترضة بين الأدب والفنون، والأدباء والفنانين، وذلك من زاوية واقع الممارسة الأدبية والفنية العربية والمأمول منها، خصوصا من زاوية السرد الروائي، بشكل تنفتح معه النصوص على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه.
تواتر النصوص الروائية
انطلقت الندوة، التي نسق فعالياتها الباحث والناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، من أرضية ركزت على تواتر عشرات النصوص الروائية العربية المعاصرة، في العقود الأخيرة، التي يخترقها الخطاب البصري، حيث لا يبدو سعي الرواية العربية المعاصرة، إلى إسكان الصورة في بؤر وقائع جغرافية وتاريخية وثقافية مغايرة لسياقاتها الأصلية، إلا من حيث هو تراسل مع نزوع تأويلي عام، ما فتئ يفتح مجازات الأعمال الفنية على احتمالات تتعالى على الوقائع التاريخية المتضاربة والكثيفة، ومن ثم تحويل حقيقتها الحسية إلى سمة مجردة ما دامت ملامح التمثلات بما تنطوي عليه من عمق فكري وجمالي تفارق أصولها الواقعية، كيما تنخرط، تدريجيا، في منطق "تذويت" سردي لوقائع مستجدة.
وأشارت الورقة إلى أعمال فنية لرسامين وفوتوغرافيين وسينمائيين ونحاتين معروفين، من قبيل بابلو بيكاسو ودييغو ريفيرا ويل ميلر ويوسف شاهين وجواد سليم، شكلت بالتدريج مصدر إلهام لعدد كبير من الروائيين العرب، من المحيط إلى الخليج، استهوتهم عوامل التشكيل والفوتوغرافيا والسينما، عبر عقود من المحاورة والجدل والسعي إلى إعادة صياغة الأثر، بحيث مثلت تلك اللوحات والمنحوتات والصور الفوتوغرافية والأفلام السينمائية، ذريعة بصرية مثالية لتضمين النقد في النصوص الروائية، وتشخيص مفارقات الحياة اليومية. كما شكلت معبرا لبيان مهارات التصوير، وتقنياته، وآلياته، بالقدر نفسه الذي أرخت فيه لمشاهير الفن، وما خلفوه من صور وتراث بصري عن مدن ومآثر تاريخية، وشخصيات سياسية وأدبية، وبلدان احتضنت رحلات مصورين مغامرين، فتجلت أغلب نصوص هذا النوع الروائي باعتبارها سرديات عن ماهية التصوير البصري وفلسفته، وصلاته بالحقيقة والحياة والناس، وجدله الذهني والأسلوبي مع قوالب البلاغة وجماليات التعبير الأدبي.
جانب من الندوة
قراءات روائية
تميّز برنامج الندوة بتخصيص جلستين كاملتين، من بين الجلسات الأربع، لقراءات من نصوص روائية من طرف كتابها، فقرأ الروائي التونسي شكري المبخوت مقاطع من روايته "السيد العميد في قلعته"، وقرأت الروائية الفلسطينية ليانة بدر من روايتها "بوصلة من أجل عباد الشمس"، والروائي المغربي محمد الهرادي من روايته "معزوفة الأرانب"، والروائي المصري إيمان يحيى من ورايته "الزوجة المكسيكية".
وقدمت الروائية العراقية إنعام كجه جي، ورقة خصصتها لتجارب أظهرت فضل زوجات الفنانين العرب والأجنبيات على الفن التشكيلي العربي.
وعادت بالحضور إلى العراق، بداية مع منتصف القرن الماضي، للحديث عن تجربة أحد كبرا النحاتين والرسامين جواد سليم، صاحب "نصب الحرية"، الذي يشكل علامة فارقة لبغداد، وذلك من خلال السيرة الروائية لزوجته الرسامة البريطانية لورنا سليم ، قبل أن تتحدث عن بعض مضامين رواية "النبيذة".
أما الجلسة الرابعة، فقد قرأ خلالها المغربي مبارك ربيع مقاطع من روايته "أحمر وأسود"، واللبنانية علوية صبح من روايتها "أن تعشق الحياة"، والتونسي حسونة المصباحي من روايته "ليلة حديقة الشتاء"، والسوداني طارق الطيب من روايتيه "بيت النخيل" و"أطوف عاريا".
جانب من الحضور ويبدو الكاتب اليمني عبد الرب سروري والكاتب اللبناني رشيد الضعيف، والناقدة المصرية اماني فؤاد
وعي بصري
قال شرف الدين ماجدولين، في افتتاح الندوة، إن الرواية هي فن الوعي البصري، الذي من المفترض أن نسائل أبعاده العديدة. وأضاف أنه يكاد يزعم أنه لا يوجد نص روائي لم يكن مشغولا بتفصيل بصري، قبل الحديث عن الامتدادات التي تجعل أي نص روائي يطمح إلى أن يكون له ما بعد إنجازه اللفظي وما بعد إنجازه المفرداتي، أي ذلك الامتداد داخل الفيلم وداخل المسلسل الدرامي، وأحيانا داخل فضاء التمسرح. ورأى أن الأمر يتعلق، هنا، بانشغال أصيل وسؤال مشروع، والاستمتاع إلى امتداداته ،وكيف نؤوله كنقاد وكباحثين.
الرواية والأثر
قدم الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري، في مداخلته التي حملت عنوان "الرواية والأثر"، تأملا في الوشائح بين الكتابة عموما، والرواية خصوصا، وبين تجربة الفنون التشكيلية في المغرب، التي قال عنها إنها حديثة جدًا لكنها مخلخِلة.
وطرح الاشعري سؤالا حول الكيفية التي كان الشعراء والروائيون والقصاصون يكتبون بها نصوصهم قبل انفجار التجربة التشكيلية في الحقل الثقافي. كما تساءل عن اللغة والبناء والرؤية في أي لغة، وإن كانت تتفاعل وتتأثر، تغتني وتتحول بحسب تطورات النظام البصري المحيط بها، قبل أن يركز حديثه على التجربة المغربية، ليطرح تساؤلات قال إنها قد توحي بأن انفجار التجربة التشكيلية قد حدث في أرض خلاء.
والحال، يضيف الأشعري، أن هذا النظام البصري كان موجودا بطرق أخرى واشكال وحوامل مختلفة، وكان حاضرا في المدن والقرى عبر المعمار والزخرف والنسيج والطرز والحلي والوشم والكاليغرافيا، وكانت له وشائج قوية مع اللغة، من الناحية الشكلية ومن الناحية الروحية أيضا.
وأشار الأشعري إلى ما قال إنه صدمة، مثلها الانتقال الطارئ من النظام القديم إلى النظام الجديد، والذي كان مستفزا بأسئلته وقضاياه، بالرغم من الفراغات التي أحاطت به، كالانفصام الواضح بين التشكيل والمدينة، أو بين التشكيل والمعمار، أو بالحضور الخجول للنحت الكلاسيكي.
وأضاف أن تحليل الصدمة سيمكن من فهم أفضل للميكانيزمات التي تحكمت في تشكيل الثقافة البصرية المغربية الحديثة، وللشروخ التي لا تزال مفتوحة أو كامنة في هذه الثقافة.
وتوسع الأشعري في تناول الأسئلة التي تناولت علاقة التشكيل بالأدب،والتجارب التي تناسلت بداية من سبعينات القرن الماضي في المغرب. ورأى أن الأثر البصري في الرواية لا يمكن أن نقيسه بحضور العوالم التشكيلية عبر شخصيات الرواية أو محكياتها إلا بعلاقة التفاعل المباشر بين النصوص والتجارب، بين الرواية والأعمال الفنية، بشكلٍ يقود إلى الحديث عن كيمياء التلاقح بين الأثر البصري وبين الكتابة الأدبية.
وشدد الاشعري على أن ما يهمه في الأثر التشكيلي والرواية ليس المحكيات والشخصيات، بل كيف يحصل الأثر التحديثي للنصوص الأدبية بواسطة التشكيل.
ورأى الأشعري أنه يبقى من المفيد أن نتساءل عن الكيفية التي تلقينا، ونحن ننشغل كشعراء وروائيين في قلب هذه اللغة، هذه اللغة الجديدة، وهل هي أولا لغة، وإن كانت هذه الشبكة من الرموز والإشارات، من المساحات والأحجام، من المواد والحركات، هي تغيير فوق لغوي أو لغة لها أبجديتها وبلاغتها.
من السيناريو إلى الرواية
تطرق الروائي اللبناني رشيد الضعيف عن تجربته الشخصية على مستوى الكتابة، انطلاقا من سؤال كيف نحول سيناريو إلى رواية، وتجربته مع السينمائيين الذي يلحون عليه في كتابة السيناريو، لأنهم يرون في ما يكتب أشياء يمكن تصويرها وإخراجها سينمائيا.
وتحدث أيضًا عن رأيه في تحويل رواياته إلى سيناريو، وعن تجارب أخرى مع سينمائيين ومسرحيين. فقال إن هناك شبها كبيرا بين السينما والمسرح، مع فرق صغير وصعب، يتمثل في صعوبة تحويل المسرح إلى سينما، فالمكان يتغير وطريقة جلوس الناس تتغير، والتعابير تتغير، والكلام يتغير، كما أن التمثيل في السينما يختلف عن التمثيل في المسرح.
وتوسع الضعيف في الحديث عن تجربة أخرى، تتعلق بكتابته سيناريو عن انفجار مرفأ بيروت. وقال إن إخراجه للسينما لم يتم لأن ذلك مكلف، وارتأى، في الأخير، أن يحوله إلى نص روائي.
حسونة المصباحي وطارق الطيب
الأدب والسينما .. وواو العطف
قدمت مي التلمساني، الروائية المصرية وأستاذة الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا بكندا، ما قالت إنه تصورات عن فكرة الاقتباس من الأدب إلى السينما، والتراتبية التي تفرضها العلاقة. وقالت إنها تهتم أكثر بعمليات إنتاج هذه العلاقة باعتبارها متكأ بين الأدب والسينما.
ورأت أن واو العطف، هنا، تمثل إشكالية خطيرة، لأن الأمر يتعلق بعلاقة تلاقح وحركة طوال الوقت، تقوم على التوافق والتحوير والتأويل والتناص بما يتجاوز النقل المباشر أو التجربة أو بناء شخصيات أدبية عبر وسيط بصري. يتعلق الأمر، هنا، بسعي إلى فهم عمليات التناص والتلاقح بين الأدب وبين الفنون من خلال الأدوات التي يستخدمها كل وسيط باعتبارها عمليات وصل وفصل في آن واحد تتقاطع فيها النصوص ضمن شبكة معقدة من الاحتمالات اللانهائية.
وأضافت أن العلاقة كلمة ومفهوم مبهم، فيما التقاطع لا الصراع والتراتبية هو ما يسمح لنا بفهم الحوارية بين النصوص والخطابات المختلفة، وتأويلها ضمن سياقاتها الثقافية والنوعية.
وأشارت التلمساني إلى أن العلاقة بين الأدب والفنون البصرية والسينمائية يمكن أن تتأسس على ثلاثة ملامح رئيسية، أولها، أن العلاقة بين الأدب والفنون ليست ثنائية الأطراف بل شبكة من الخطوط ترتبط بين عناصر متعددة تتجاوز النصوص ذاتها وتنفتح على خطابات الجمال وماهية الإبداع ووظائفه.
وثانيها أن العلاقة بين الأدب والفنون هي عملية تركيب وحضور دائم وتحاور بين نصوص متجاورة سابقة وتالية على عملية التناص.
وثالثها أن العلاقة بين الأدب والفنون هي علاقة تعدد تحيل لضرورة التفكير في تاريخ النظر، لا تنفصل فيه الكتابة عن الفنون ونطل منه على العالم فتتسع رقعته إلى ما لا نهاية.
البصر والبصيرة
قدم الروائي والأكاديمي اليمني حبيب عبد الرب سروري، قراءة ركز فيها على المشهد البصري الميتافيزيقي في الرواية، انطلاقا من عبارة للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، قال فيها إن "الفن هو الحياة الحقيقية".
وتوسع عبد الرب سروري في تقديم الكيفية التي يفهم بها هذه العبارة، مشيرًا إلى أن المشهد البصري مهم في الرواية، حينما يرتبط البصر بالبصيرة.
الكتّاب الفلسطينية ليانة بدر واللبنانية علوية صبح والمغربي مبارك ربيع
الحداثة والعتاقة
اختار معجب سعيد العداوني، الناقد والأستاذ الجامعي السعودي، في ثالث جلسات الندوة، والتي ترأستها مي التلمساني، الروائية المصرية وأستاذة الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا بكندا، أن يبقي الضوء على عملين روائيين عربيين، هما "مسرى يا رقيب" للروائية السعودية رجاء عالم و"حبس قارة" للروائي المغربي سعيد بنسعيد العلوي، وذلك من زاوية علاقتهما بالخطاب التشكيلي.
وقال العدواني إن عمل الكاتبة السعودية يرتكز على جانب التعالق والارتباط مع الفن التشكيلي، من خلال نص مكتوب وعشر لوحات فنية مرفقة.
وتطرق إلى البعد الأسطوري في الرواية، وتوظيف البياض، مثلا، وذلك بشكل يُظهر مزيجًا من الحداثة المطلقة والعتاقة المفرطة. وجاءت رواية العلوي وفق مسارين سرديين. الأول يشير إلى علاقة الرسام الفرنسي أوجين دولاكروا بالمغرب واللوحات التي استلهمها منه، والتي تقدم إشارات مهمة لترسيخ تاريخ هذه اللوحات داخل المغرب، كما أن لها معنى إنسانيا، باعتبارها مجالا للحب والجمال بين المغاربة والفرنسيين.
السينما كتيمة في الرواية
بهدف الوقوف على الكيفية التي عبرت بها الرواية العربية عن العلاقة بين الشرق والغرب من خلال تضمينها السينما كموضوع، تناولت اللبنانية كاتيا غصن، الناقدة والأستاذة بجامعة باريس 8، موضوع "السينما كتيمة في الرواية العربية ومساءلة الحداثة الغربية".
وركزت غصن على أربع روايات: "سارة" للمصري عباس محمود العقاد، و"تصطفل ميريل ستريب" للبناني رشيد الضعيف، و"حرمة" لليمني علي المقري، و"كلب بلدي مدرب" للمصري محمد علاء الدين.
وقالت غصن "إن "سارة" و"تصطفل ميرل ستريب" ، وإن تباعدا في المكان والزمان إلا أنهما يقدمان نظرة متشابهة للحداثة مستمدة من حركة النهضة".
أما "حرمة" و"كلب بلدي مدرب"، تقول غضن، فقد عبرا عن موضوع النقلة الحضارية، لكن بتوجه مختلف، وبفكرة مغايرة عن التحولات الثقافية في العلاقة مع الغرب، وذلك وفقا للنظام السائد بشكل عام.
وتحدثت غصن عن تاريخ الرواية والسينما في العالم العربي، وكيف أن ظهورهما ارتبط ببدايات النهضة العربية. ورأت أن الروائي المصري نجيب محفوظ يمثل أكبر مثال على تداخل عوالم الرواية والسينما في العالم العربي، إذ أنه فضلا عن رواياته التي حولت إلى السينما (28)، كتب 29 سيناريو خصيصا للفن السابع. وقال إن هناك روائيين من مناطق متفرقة من العالم العربي يكتبون السيناريو للسينما.
وخلصت غصن إلى أن الأعمال التي تناولتها مع اختلاف النظرة فيها إلى السينما تركز على النقل الثقافي من اتجاه واحد، وذلك من الغرب إلى الشرق.
الفن الروائي والفن والمعماري
وتحدثت أماني فؤاد، الناقدة والأستاذة الجامعية المصرية، في مداخلة بعنوان "الفن الروائي والفن والمعماري"، منطلقة عن فن المعمار حين تستعين به الرواية.
وتناولت الناقدة المصرية، في معرض تحليلها، روايات "الفتى المتيم والمعلم" للتركية أليف شافاك، و"عمتي زهاوي" للعراقي خضير فليح الزيدي، و"الجبل" للبناني فتحي غانم. وقالت إن هذه الأعمال الروائية مشغولة بفن المعمار، مشيرة إلى أنها عمدت في قراءة كل رواية إلى فن المعمار لكي تتعرف على الفترة أو نوعية المعمار الذي تتحدث عنه.
جدار الفرقة
اختار حسن بحراوي، الناقد والأستاذ الجامعي المغربي، أن يستعرض جملة مفارقات حول عدم زيارة الكتاب للمعارض وعدم مشاهدتهم للأفلام إلا مصادفة، علاوة على أن معظم الرسامين والمصورين لا يقبلون على قراءة الأدب إلا قليلا أو اضطرارا، بشكلٍ تتلاشى معه فرص الاستفادة المتبادلة.
وتطرق بحراوي إلى علاقة التشكيل والرواية، وكيف أن الأول "تصويري، سكوني وهادئ"، والثانية "تعبيرية، متحركة محكومة بزمن ومكان السرد".
وتطرق بحراوي إلى ما سماه تحطيم جدار الفرقة، بين الكتاب والتشكيليين في المغرب، مشيرًا إلى أن العلاقات التي كان من المفترض أن تقوم بينهما كانت هشة، ولم تصمد أمام كثير من العوالم. وهو الشيء الذي "لم يقرب المسافة بين الكتاب والفنانين إلا بقدر ضئيل لم يكن يصل إلى حد إقامة الجسور بين أهل التصوير وأهل التعبير التي كنا نأملها".