منذ سقوط نظام حزب البعث في سوريا ومن ثم فرار رأس النظام بشار الأسد إلى روسيا، والدول التي كانت حليفة لنظام دمشق وكذلك الأمر تلك المحيطة بسوريا غدت قلقة حيال الوضع السوري الجديد بعد أن حرق بشار الأسد بفراره طبخات البعض منها، ومن بينها أنقرة التي وقعت في حيرةٍ من أمرها، وهي التي كانت تبعث للأسد الكثير من الرسائل في الفترة التي سبقت فراره نحو الغابات الروسية لكي تأخذ منه صكاً آخر تقتحم بموجبه محافظة الحسكة كما حصلت سابقاً من الأسد والروس على صك غزو "رأس العين" و"تل أبيض" و"عفرين"، كما كانت تتأمل إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة حتى تنجح في سياسة تغيير البنية السكانية في المناطق التي تم غزوها بموافقة الأسد والروس، ولكن آمالها في ذلك الجانب لم يحالفها النجاح الكافي بسبب تضارب مصالح الغرب وإسرائيل مع مصالحها في سوريا.
ومن يوم التغيير الكبير في سوريا بدأت أنقرة بتغيير استراتيجيتها السابقة بخصوص حربها مع حزب العمال الكردستاني، إذ بدلاً من اختلاق الذرائع لاستمرار هجماتها على مواقع الحزب المذكور أو على المرتبطين به كما في السابق، أعادت إلى الواجهة مشروع عملية السلام كامتداد لعملية السلام الفاشلة بين الحزب المذكور وتركيا بين عامي 2013 و2015، وذلك كله لئلا يستفيد كرد سوريا من تبعات سقوط النظام في بلادهم، فيعودوا إلى ما كانوا عليه أيام حكم السلطة الماضية، خصوصاً وأن تركيا تتحسس جداً من قصة الفيدرالية أو اللامركزية أكثر من السلطة السورية الجديدة نفسها، بل وتشدِّد أكثر منها على تقوية النظام المركزي من جهة، ومن جهةٍ أخرى فلأن إمكانية الهجوم الجوي على مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من قِبل تركيا كما حصل في "عفرين" و"رأس العين" و"تل أبيض" ليست متاحة بوجود القوات الأمريكية والتحالف الدولي، ولأنها غير واثقة أيضاً من قدرة جيش السلطة السورية الجديدة على إنهاء قوات قسد إذا ما حصل الصراع التناحري بينهما، لذا تحاول إنهاء قوات قسد بطريقة سياسية توافقية وجعلها تتنازل عن كل شيء من خلال نفوذ ورمزية زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان ومكانته لدى أنصاره.
وحيال إملاءات الزعيم المعتقل، فإذا كان خبر طلب قائد قوات "قسد" مظلوم عبدي المتعلق بزيارة تركيا ولقاء عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في سجن إمرالي والتحدث معه مباشرةً ووجهاً لوجه صحيحاً، فهذا يعني بأن مظلوم عبدي غدا مثله مثل الكثير من المثقفين الكرد في ارتيابٍ من أمر ما يصدر من تصريحات أو تعليمات أو رسائل باسم عبدالله أوجلان، إذ نقلت وسائل الإعلام خبراً مفاده بأن تركيا رفضت طلب عبدي مشترطة أن على الأكراد ترك العتاد أولاً. وجاء رفض الطلب من قِبل المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك، الذي قال يجب على الأكراد التخلي على العتاد أولاً وأن تثبت "قسد" أنها لا تمثل خطراً أمنياً على تركيا.
وبناءً على تصريح تشيليك فمن لا يعرف خارطة نفوذ القوى العسكرية في سورية سيفهم بأن الجهة الوحيدة التي تشكل الخطر على الأمن القومي التركي هي الممثلة بالكرد، علماً أنهم منذ 2013 وإلى ما بعد سقوط نظام البعث الحاكم في سوريا لم يهدِّدوا عملياً ولو مخفر تركي واحد على طول الحدود التركية مع سوريا فكيف لهم إذن القدرة على تهديد الأمن القومي لأكبر دولة شرقية في حلف الناتو؟ ولكن مع ذلك يظل الكرد في مخيالهم هم الخطر الأكبر وليس الدواعش، ولا مجموع الفصائل الجهادية، ولا الفيالق العشائرية المهيأة للغزو إذا ما أتاها الإيعاز، ولا حتى إسرائيل تشكل الخطر على أمنها القومي بالرغم من أنه سبق لإسرائيل أن منعت تركيا من إقامة قواعدها العسكرية وسط سوريا وفي عاصمتها!
كما أن تصريح تشيليك مؤلف من شقين متصلين؛ الأوَّل منه هو رفض طلب قائد قوات قسد ولكن بلغة سلسة ودبلوماسية مرنة، والشق الثاني ترهيبي والإيحاء بأن الخيار العسكري متاحٌ على الدوام واستخدام القوة غير مستبعد، وذلك في قوله إن تركيا تعتمد في سياستها على "الأفعال وليس الأقوال"، مضيفاً أن أنقرة تريد رؤية خطوات ملموسة من الأكراد إذا كانت "قسد" حقاً تدعي عدم سعيها للصدام مع أنقرة. هذا يعني بأن التهديدات التركية قد تطل برأسها من حينٍ لآخر، وربما تصعِّد من وتيرتها عندما يتم إهمال توصيات وتعليمات الزعيم، وهي ليس حباً بأوجلان أو اعترافاً بأهميته ستُعلِن عن غضبها عندما تُهمَل برقيات الزعيم من قِبل المستقبلين المحسوبين عليه، إنما لأنها ترى بأن أوجلان هو الذي سينقذها في سوريا ـ من كابوس اللامركزية أو الفدرالية الذي يقض مضاجعها ـ إذا ما اندمجت قوات "قسد" في السلطة وفقاً لمطالب أوجلان المزعومة.
وللأمانة فمطالب الزَّعيم في مقام الزَّعمِ لدى طيف كبير من المثقفين الكرد، باعتبار أنه ما من أحدٍ رأى أوجلان وهو يقول ذلك، وما من طرفٍ كردي موثوق الجانب أو طرفٍ محايد سمع أوجلان وهو يدعو قوات "قسد" إلى الانضام للجيش السوري الجديد والذوبان فيه، إنما الدولة الجارة هي التي ومنذ سقوط نظام الأسد تقول الذي يناسب هواها على لسان أوجلان، وتريد من قوات سوريا الديمقراطية أن تتلاشى في جسد الدولة السورية بدون أن تقوم بأي خطوة عملية تفيد قوات قسد أو كرد سوريا، إنما تطالب كرد سوريا بالتنازل مقابل مشروع عملية السلام الشفهية في دولة مجاورة، وبين تلك الدولة وشخصٍ تركي يقود حزب معني بالشأن التركي وهو ما يزال رهينة لديها! حيث كانت صحيفة "حرييت" التركية قد قالت يوم الأربعاء الفائت إن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وجّه رسالة "واضحة" خلال لقائه الأخير مع نواب في البرلمان التركي، دعا فيها إلى دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجيش السوري، مشدداً على أهمية أن تكون هذه القوات جزءاً من "سوريا الجديدة".
فأوجلان الذي أوكل إليه حالياً دور علاء الدين في مصباح إمرالي السحري تبوأ مكانة ذلك المارد الاسطوري بجدارة، فهو العملاقُ المعني بتلبية كل رغبات المالِك، والغريب أن ذلك المارِد ومنذ سقوط النظام السوري وهو طوع بنان صاحب الفانوس، وصار يخرج في اللحظة التي تخطر على بال المالِك، وغدا من فيض تسرعه ونشاطه كالمغرم الذي غلبه الشوق ولا يعطي فرصة التفكير للطرف الآخر، إنما تراه مستعجلاً في إرسال البرقيات ولا ينتظر الردود ممن يعنيهم أمر البرقيات الغرامية المتلاحقة، وهو الأمر الذي دعا مجموعة من المتنورين الكرد ومن بينهم على سبيل الذكر وليس الحصر الدكتور سربست نبي والروائي هوشنك أوسي إلى التشكيك بأمر مجمل الرسائل القادمة مِن إمرالي ومِن مرسلها.
واللافت ها هنا هو أن ذلك التشكيك لم يبقَ في إطاره الضيِّق، إنما وصلت الريبة إلى أفئدة وعقول المعجبين بأوجلان وحاملي أفكاره، وفي هذا الصدد استطاع رهط المتنورين التأثير ليس على الحاضنة الأوجلانية من البسطاء فحسب، وإنما حتى على قادة حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا وكذلك الأمر على القادة العسكريين في قوات سوريا الديمقراطية، خصوصاً وأن تلك النخبة أثبتت خلال الفترة الفائتة بأنها تناصر قضية شعب وتدافع عن حقه في حياةٍ حرة وكريمة ليل نهار، ولا تحابي أي حزب أو طرف سياسي من بين كل الأحزاب السياسية الموجودة في المناطق الكردية في سورية، وبإمكاننا القول إن أثر المتنورين الكرد الذين لم يدخروا أي جهد طوال الفترة السابقة حيال ما تعرض له الكرد السوريين عامةً بحجة قسد، وحيال ما يُحاك ضدهم في دول الجوار فيما يخص مقايضة قضية شعبهم بالأقوال والوعود الخلبية كان أشبه بفاعلية أثر الفراشة*، فالفروق الصغيرة التي أحدثتها حنجرة كل واحد منهم بصوته الحر وبقوة رفرفة أجنحته الفكرية ولّدت موجات إدراكية مهمة في الشارع الكردي بوجه عام.


