شكّل اغتيال حسن نصر الله لحظة فارقة في مسار حزب الله، إذ لم يسقط أحد أبرز رموزه فحسب، بل سقط معه الغطاء النفسي والرمزي الذي طالما استخدمه الحزب لتثبيت معادلة الهيبة والردع التي كان يمارسها على خصومه في لبنان والدول الإقليمية والعربية. تلك اللحظة كشفت هشاشة داخلية كانت مستترة لسنوات، ودفعت الحزب إلى مرحلة جديدة من التعرض الأمني والانكشاف الاستراتيجي. ومن وجهة نظري، فإن ما تلا اغتيال نصر الله لم يكن مجرد سلسلة عمليات منفصلة، بل مساراً منظماً يعيد رسم بنية القوة داخل لبنان، وهذا هو جوهر المشكلة.
في الحقيقة، جاءت سلسلة الاغتيالات المتكررة والضربات الإسرائيلية الجراحية والعميقة نتيجة طبيعية للانكشاف الأمني المستمر. لقد جاء اغتيال هيثم الطبطبائي - الرجل الثاني وقائد أركان الحزب - ليعمّق هذا الانكشاف وليكشف أن الضربات الإسرائيلية لم تعد تستهدف الفراغات الأمنية، بل تستهدف قلب المنظومة العملياتية للحزب.
فالعملية أعادت صياغة قواعد الاشتباك بشكل كامل، وأظهرت قدرة استخبارية مركّبة شاركت فيها - بحسب المعلومات المتقاطعة - أجهزة إسرائيلية وأميركية في وقت واحد، ما شكل سابقة تؤكد أن حزب الله بات ضمن دائرة المراقبة الدولية المباشرة، ومن هنا تتضح خطورة المشهد. وهذا النوع من الاختراق ينسف بالكامل سردية الحزب التي تقول إنه عالج الخلل الأمني بسرية، ويؤكد أن البيئة التنظيمية باتت مكشوفة أمام أجهزة متعددة الجنسيات.
وتفيد تحليلات غربية أن التعاون الأمني الأميركي – الإسرائيلي في هذه العملية لم يكن عارضاً، بل جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة هندسة المشهد الأمني اللبناني عبر تفكيك مراكز الثقل القيادية في الحزب. وعليه فإن هذا يضع الحزب أمام معادلة معقدة، فهو لم يعد في مواجهة عدو واحد، بل في مواجهة منظومة أمنية دولية متكاملة ستجبره على دفع فاتورة مستحقة على إرهابه المستمر منذ ما يزيد على أربعين عاماً.
في حين تشير معطيات مختلفة إلى أن عدداً من عناصر البيئة الشيعية، وحتى من داخل الحزب، شاركوا في تسريب معلومات استخباراتية حساسة مقابل مكافآت مالية أو ممرات خروج آمنة إلى الولايات المتحدة وأوروبا. وقد وضعت جهات أميركية - بما فيها وزارة الخارجية والأمن القومي - مكافآت قد تصل إلى خمسة عشر مليون دولار لكل من يقدم معلومات تقود إلى تعطيل شبكات حزب الله أو الإضرار بمراكز قيادته.
مشكلة حزب الله ليست فقط في المواجهة مع دولة إسرائيل، بل في عمق انتمائه العقائدي والسياسي للمشروع الإيراني. فالخطاب الداخلي للحزب لا يزال يعتبر لبنان "ضيعة" تدار بالوكالة عن طهران، وهو تعبير استخدمته أدبيات عدة انتقدت حزب الله. وبلا شك، يدرك الحزب أن أي خطوة تراجع أمام دولة إسرائيل ستكون خيانة للمشروع الإيراني الذي ضخّ ملايين الدولارات على مدى عقود لتمكين الحزب من إدارة المشهد الأمني والسياسي في لبنان، ولذلك، لا يستطيع الحزب التراجع حتى لو كانت نتيجة الاستمرار هي المزيد من النزيف البشري والعسكري، لأن التراجع ببساطة يعني نهاية النفوذ الإيراني في لبنان.
وفي العمق، يرتبط هذا المسار بالصلة العضوية التي تربط الحزب بالمشروع الإيراني. فالحزب لا يتحرك ضمن حسابات لبنانية، بل ضمن إطار وظيفي مرتبط بالحرس الثوري الإيراني. وهذا الارتباط العقائدي يضع الحزب في مأزق استراتيجي: فهو محكوم بحسابات طهران، لا بمصلحة لبنان.
وتشير التحليلات المتقدمة إلى أن دولة إسرائيل لا تستهدف الحزب ضمن إطار الردع التقليدي، بل ضمن استراتيجية تفكيك منهجي تهدف إلى ضرب القدرات القيادية، وتعطيل مراكزه الحساسة، وإضعاف قدرة التنظيم على إدارة صراعات متعددة المستويات. وإن صحت التقديرات المتعلقة بما يسمى "خطة B" التي يجري تداولها في بعض الدوائر البحثية، فقد تشهد المرحلة المقبلة عمليات متعددة تستهدف شخصيات من حزب الله وحركة أمل لإعادة رسم ميزان القوى داخل الساحة الشيعية، وهذا سيناريو - في حال حدوثه - سيغيّر قواعد اللعبة في لبنان بشكل جذري.
أما الدولة اللبنانية، فهي خارج دائرة الفعل تماماً. لا قدرة على فرض السيادة، ولا على ضبط الأمن، ولا على حماية مؤسسات الدولة. وغياب الدولة بهذا الشكل يجعل كل عملية تستهدف الحزب جزءاً من معادلة تُدار من الخارج. وهذا يعيدنا إلى المشكلة البنيوية، وهي أنه من دون تفكيك السلطة المسلحة الموازية، لا يمكن للبنان أن يستعيد نفسه دولة.
وفي ظل هذا الفراغ اللبناني، تبرز إقليمياً دلالات جديدة في قراءة الشعوب العربية لدور الفاعلين في المنطقة، ويأتي هذا وبالترافق مع تراجع قدرة العواصم الإقليمية التقليدية على ضبط المشهد، بدأت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تنظر إلى مصادر القوة الفعلية القادرة على إعادة التوازن. ومن وجهة نظري، فقد بات واضحاً أن كثيراً من العرب يعتبرون أن دولة إسرائيل أصبحت لاعباً رئيسياً في بناء الاستقرار النسبي، خاصة في ظل قدرتها على مواجهة التنظيمات المسلحة العابرة للحدود، وهي قدرات لم تستطع بعض الدول الإقليمية تحقيقها، وهذا تحول مهم.
وتتوسع هذه النظرة مع ما يمكن تسميته الاستراحة الإبراهيمية المحتملة التي من المحتمل أن يشارك لبنان فيها، فهناك قناعة متنامية بأن تفعيل اتفاقيات السلام الإبراهيمية يمكن أن يفتح الباب أمام حقبة تهدئة توفر للمنطقة مساحة للتركيز على التنمية بدلاً من الصراع. في الحقيقة، هذا التحول ليس مجرد رغبة سياسية، بل هو تعبير عن تطلع اجتماعي نحو الاستقرار، بعد عقود من الاستنزاف بفعل الصراعات المفتوحة.
ومما أرى، فإن مستقبل لبنان سيظل رهينة لهذه المعادلة المعقدة، فلا تعافٍ ولا استقرار ما دام القرار الأمني خارج المؤسسات الرسمية، وما دام السلاح بيد فاعل يتجاوز الدولة. وفي الحقيقة، لن يبدأ لبنان مساره الإصلاحي قبل معالجة جذور القوة المسلحة للحزب عبر تسوية كبرى أو استنزاف طويل الأمد. وهذا هو جوهر المشكلة، ومن هنا تبدأ كل الأزمات القادمة - أزمات لن تنتهي إلا بتفكيك منظومة الدولة العميقة والسلاح الموازي، أو باستنزاف طويل يستهلك ما تبقى من الدولة الفعلية نفسها.

