: آخر تحديث

ما العمل؟ سؤال لا إجابة عنه

0
0
0

لا تتوقّف المقالات والبيانات وشتّى الكتابات عمّا يجب تغييره وإصلاحه في مجتمعاتنا ونظمنا السياسية وعقلياتنا وأنماط سلوكنا. آلاف المداخلات والمؤلفات حول التحولات والإصلاحات المنشودة. ليس في الحاضر القريب أو الأبعد فحسب، بل منذ انطلاق «النهضة الفكرية» في القرن التاسع عشر حتى اليوم. من المعلّم بطرس البستاني وأترابه المستنيرين، إلى البيان الذي وصلني مؤخراً من تلك الجهة الإصلاحية... طوال نحو قرنين من الزمن، تتوالى بلا هوادة الطروحات والمواقف نفسها: نشر العلم ومكافحة الجهل، محاربة الفساد والمحسوبية في أجهزة الدولة وفي المجتمع، تغليب الشأن العام على المنفعة الخاصة، تطهير المؤسسات المدنية والدينية، إحلال المساواة وتكافؤ الفرص بين الناس، إعطاء المرأة حقوقها وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، إعلاء الراية الوطنية ونبذ الانتماءات الفئوية، محاربة الطائفية والمذهبية والعشائرية والعنصرية، السعي إلى تحقيق العلمنة، إصلاح العدالة بوصفها سبيلاً وحيداً لاستقامة الحكم، التطوير والتحديث، وغير ذلك من الشعارات والغايات التي يضيق المكان بذكرها. غيض من فيض لا ينضب.

والغريب أنه منذ نحو قرنين ما زالت المطالبات هي نفسها تقريباً، تدور فيما يشبه الحلقة المفرغة. مطالبات ناتجة في مجملها عن عملية التثاقف المستمرة بين المجتمعات المشرقية والغرب، وهو تثاقف وحيد الجانب نتلقى خلاله مؤثرات الحداثة الغربية، ولا نؤثر فيها بشيء. وهي مطالبات آتية من مجتمع الأفراد السائد في الغرب إلى مجتمع الجماعات الذي هو مجتمعنا، الذي يتوهّم أنه هو أيضاً مجتمع أفراد، وأن ما يسري هناك يسري هنا، لا فرق، ما يزيد الدوران في الحلقة العبثية، بلا نتيجة.

لكن مهما يكن من أمر، تطالعنا في فيض الشعارات والمطالبات والمقولات الإصلاحية، المفارقة المأساوية التالية: بقدر ما تكثر وتشتد الأهداف الإصلاحية المنشودة على مرّ الزمن، تغيب كليّاً عن النقاش وسائل العمل القادرة على تحقيقها. كأنه يمكنها، بسحر ساحر، تحقيق ذاتها بذاتها. أو كأن الكلام عن الأهداف بهذه القوة والكثافة قد حققها في اللغة والنص، كبديل عن تحقيقها في الواقع... ما العمل؟ سؤال لا إجابة عنه.

وصلني بيان جميل مسهب عن «تحرير المجتمع المدني» جاء في مستهله: «أن نحرّر المجتمع المدني هو أن نحرّر الإنسان اللبناني من شبكة التبعية السياسية التي تخنق وعيه وتوجّه مصيره منذ عقود. فالمجتمع المدني، في جوهره، ليس قطاعاً محاذياً إلى جانب الدولة، بل هو فضاء السيادة الشعبية الحقيقية، حيث تقاس الديمقراطية بقدرة المواطن على محاسبة السلطة والأحزاب كل يوم...»... ويستمر البيان الطويل على هذا النحو الواضح الصارم. لكن لا كلمة واحدة فيه عن وسائل العمل لتحقيق ذلك. كأنّ مجرد إيضاح الغايات يشقّ الطريق تلقائياً إلى تحقيقها.

وعلى ذكر المجتمع والدولة في لبنان، وخلافاً لسائر أنحاء المشرق، كان للمجتمع من دون الدولة الفضل الأكبر في مجمل الإنجازات الفريدة التي حققها المشروع اللبناني منذ ظهور كيانه الأول عام 1861: الإسهام الكبير في النهضة الفكرية، التعليم الجامعي، التعليم العام، مدرسة الأدب اللبنانية وروادها، مدرسة الرسم وروادها، حركة الترجمة، النهضة الصحافية، النهضة الطباعية، نهضة الاستشفاء، نهضة العدالة، الازدهار الاقتصادي، تكريس نمط عيش قائم على نوعية الحياة البشرية وعلى العلم والمعرفة والحرية، التفاعل الخلاق مع عوالم العصر والحداثة، بحيث أضحت بيروت ذات يوم «منارة الشرق».

وفي غياب وسائل العمل لتحقيق الأهداف الإصلاحية، يبرز القائلون، وهم كثر، بأن الوسيلة المثلى هي إلغاء «الطائفية السياسية»، وهو النعت الذي يطلقه خصوم «الصيغة اللبنانية » عليها. لكن في الحقيقة، كل ما تمّ تحقيقه من إنجازات معرفية وحياتية وفضاء حريات في المدى اللبناني كان بفضل هذه الصيغة الفريدة، التي أرست فيدرالية مجتمعية فوق الأرض الواحدة، بعيداً عن عصف الديكتاتوريات التي شلّت المنطقة وعقّمت قواها الحية. ويتخيل بعض المطالبين بإلغاء «الصيغة اللبنانية» أن ما سيحل مكانها هو نوع من الديمقراطية المتطورة، أو العلمانية الحديثة، الشبيهة بالنموذج الفرنسي. لكن ما سيحلّ مكانها هو في الحقيقة الديكتاتورية الطائفية أو المذهبية المطبقة، وفقاً للنماذج المعروفة، البعثية والأصولية، التي تعمّم القمع وتغلق الباب نهائياً أمام التطوّر.

وفي موازاة المطالبة «العلمانية» بإلغاء الصيغة بوصفها سبيلاً لتحقيق الحداثة، يبرز رافضو الحداثة بالكامل، العائدون بقوة السلاح إلى القرون الوسطى. والطريقان مغلقان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد