ليس غريبًا أن يعود الجدل -بعد عقدين من الزمان- ليمسك بأطراف رواية بنات الرياض للطبيبة رجاء الصائغ كما لو أنها لم تُكتب أمس، وكأن الزمن لم يَسْتَدِر دورته الكاملة بعد؛ ذلك أن بعض الأعمال لا تعيش في زمنها فقط، بل تظلّ تضيء المناطق المعتمة في وعينا كلما حاولنا إعادة تعريف علاقتنا بالكتابة وبأنفسنا، الجدل هنا ليس عن رواية فحسب، بل عن تاريخٍ اجتماعي كامل حاول أن يمر من ثقب إبرة، فوجد أمامه ثقبًا في جدار التابو، ثقبًا صنعته فناة عشرينية كانت -آنذاك- أسبق من زمنها، وأجرأ من معظم الذين سيتحدثون عنها لاحقًا.
لقد كانت رجاء الصائغ في تلك اللحظة الصوت الذي يضع قدمه خارج حدود المألوف، لا ليتمرّد، بل ليشير إلى الجدار نفسه: إلى هشاشته رغم صلابته، وإلى قابليته للانشقاق مهما بدا منيعًا، كان يكفي أن تحمل الرواية عنوانًا كهذا «بنات الرياض» ليجعل كثيرين يهاجمون العمل من غير أن يفتحوا صفحاته، هكذا يحدث حين يغدو العنوان جدارًا، والنص أرضًا لا يصل إليها أحد إلا إذا خلع خوفه أولًا، يومها بدا العنوان في حدّ ذاته فعلًا أدبيًا مستقلًا، علامة استفهام تتجوّل في المجتمع قبل أن تطال الرواية نفسها، وكثير ممن هاجموا لم يقرؤوا، وكثير ممن قرأوا لم يهضموا، وكثير ممن هضموا لم يعترفوا، هذه طبيعة النصوص التي تهزّ الهواء من حولها: تصبح عنوانًا قبل أن تكون كتابًا.
ومع ذلك، فإن مرور الزمن لا يضعف العمل الإبداعي ولا يلغي أثره الأول، بل يكشف طبقاته، يعيد قراءته بضوء أكثر عدلًا وأقل خصومة، فالكتابة التي وُلدت في لحظة صدام مع المألوف، تبقى وثيقة لروح ذلك الزمن، لا لأنها كانت “جريئة” فحسب، بل لأنها تمكنت من تحويل تلك الجرأة إلى لغة، واللغة إلى سؤال، والسؤال إلى ذاكرة مشتركة، الزمن لا يعتّق الأعمال مثلما يعتّق الخشب؛ بل يعيد اختبارها، ويقيس قدرتها على الكلام بعد أن تهدأ العاصفة.
ولست هنا بصدد تقييم عودة الطبيبة للظهور مجدد عبر أنباء عن عمل روائي جديد لها، فلم أطلع عليه بعد، لكني أثق -ثقة القارئ قبل الناقد- أن هذه المسافة الزمنية بين روايتها الأولى واليوم لا بد أنها صقلتها، لا بوصفها “كاتبة نجحت في الماضي”، بل بوصفها ذاتًا تتطور، ووعيًا يتسع، وتجربة تتراكم، ولذا فإن الإنصاف الأدبي يقتضي أن نقرأ العمل الجديد أولًا، نصًا قائمًا بذاته، بعيدًا عن الظلال الطويلة التي تركتها بنات الرياض، فالأدب لا يُقاس بالعدسة الرجعية، بل بالقدرة على التجدد، وعلى إعادة صياغة الأسئلة بلغات أخرى.
ويبقى السؤال الذي يطلّ برأسه كلما اشتدّ النقاش: لمَ نتجادل في الأذواق وكأنها معادلات رياضية؟ ولماذا نفترض أن ثمة معايير ذوقية دقيقة يمكن أن نقيس بها عمق رواية أو ضآلة أخرى؟ نعرف جميعًا أن الكتابة ليست نتيجة حساب، بل نتيجة مغامرة، وأن كل نص هو تجربة تمضي إلى التاريخ بمجرد أن تُكتب، والذوق، مهما حاولنا ضبطه، يظل ابن بيئته، وسليل زمنه، لا يُختَبَر بمعايير ثابتة، بل بتلك الرعشة الأولى التي تسبق الفهم، وتلك الدهشة التي لا ينساها القارئ مهما تطورت تجربته.
لذلك كله، تظلّ بنات الرياض نصًا يخصّ زمنه ويخرج منه، وتظل رجاء الصائغ كاتبة بدأت من ثقب صغير في جدار كبير، وتعود اليوم بعد عشرين عاما لتذكّرنا بأن الكتابة ليست حكمًا نهائيًا، بل بحثًا لا ينتهي، وأننا مهما اختلفنا نظل نقرأ بقلوبنا قبل عقولنا، ونختلف بذائقتنا قبل أحكامنا، وأن التجريب وحده، هو الذي يبقى في ذمّة التاريخ.

