: آخر تحديث

الجدار البشري الأوكراني.. لماذا ترفض أوروبا وقف الحرب؟

0
0
0

في قاعات جنيف المكيّفة، حيث تُحاك صفقات العالم خلف أبواب مغلقة، تعيد أوروبا العجوز تدوير لعبتها القديمة والمكشوفة: التضحية بالشعب الأوكراني حتى آخر جندي، في حرب تُدار ببرود وحسابات هندسية أكثر منها صراعاً سيادياً. لكنّ المفارقة أنّ القارة التي ترفع شعارات الحرية والكرامة تُصرّ على أن يكون الموت الأوكراني هو الثمن الوحيد لبقاء صورتها كقوة غربية منيعة.

مع تسريب المسودة الأولى للخطة الأميركية المؤلفة من 28 بنداً، اتضحت ملامح الصفقة بوضوح: ورقة متقنة الصياغة دبلوماسياً، لكنّها مكتوبة بروح "كرملينية" لا تخطئها العين. البنود تطلب من كييف الانسحاب من أراضٍ ضمّتها روسيا، وتقليص جيشها إلى 600 ألف جندي، والتخلي نهائياً عن حلم الانضمام إلى حلف الشمالي الأطلسي (الناتو).

بالرغم من قسوة هذه الشروط، رحّب بها بوتين فوراً باعتبارها "أساساً جيداً"، بينما رأى الأميركيون فيها سلماً سياسياً لإنزال أوكرانيا عن شجرة الهزيمة. لذلك لم يتردّد ترامب في توجيه رسالة واضحة إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي: "إقبلوا بالصفقة أو تحمّلوا تبعات قراركم". خصوصاً في ظل تأكيدات موسكو أنّ حربها ستستمر ولو ببطء، وأنّ أيّ تأخير في التسوية لن يكون إلا لصالحها على الأرض.

في خلفية ذلك مشهد آخر لا يقل أهمية: أوروبا تراقب بدهاء، تعرف أنّ لحظة انهيار أوكرانيا قد تفتح الباب لتحولات جيوسياسية تقلب ميزان الأمن الأوروبي لعقود، لذلك تتحرك ليس دفاعاً عن الأوكرانيين، بل خوفاً من الغد.

الرد الأوروبي: تحريك قطع الشطرنج الأوكرانية من جديد
حين سارعت أوروبا لتقديم خطة بديلة من 24 بنداً جرى اختصارها لاحقاً إلى 19 بنداً، كان واضحاً أنّ القارة العجوز لا تقاتل من أجل أوكرانيا بقدر ما تقاتل من أجل نفسها. رفضت أوروبا تخفيض الجيش الأوكراني إلى 600 ألف جندي، وأصرت على رفع العدد إلى 800 ألف، لأنّ أوكرانيا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي ليست "دولة صديقة" فقط، بل هي الجدار الأخير قبل أن تصل النيران الروسية إلى حدودهم.

أوروبا تُدرك جيداً أنّ جيشها غير جاهز، وأنّ شبابها غير راغب، وأنّ أيّ حرب مباشرة مع روسيا ستكون كارثية سياسياً واجتماعياً. لذلك تُبقي أوكرانيا في وضعية "الحاجز البشري" الذي يمنع الصدام المباشر.

أما البند الثاني الذي تمسكت به أوروبا، وهو استغلال الأموال الروسية المجمّدة لتمويل إعادة الإعمار، فيكشف عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها. قارة مثقلة بالديون والنمو البطيء لا يمكنها أن تموّل حرباً ثم تعمّر نتائجها. الحل الأنسب لها هو أن تدفع موسكو الفاتورة، بينما تبقى أوكرانيا ملحقة اقتصادياً بالمحور الأوروبي، في علاقة تشبه تماماً التبعية الاقتصادية الإستراتيجية.

وهذا البعد المالي لم يكن تفصيلاً، بل جزءاً من رؤية أوروبية أعمق: استمرار الحرب يعني إنهاك روسيا واستنزافها، لكن وقفها بشروط أميركية يعني منح موسكو فرصة لإعادة ترتيب أوراقها. لذلك كانت أوروبا تريد "هدنة طويلة بلا سلام"، تضمن استمرار الضغط على روسيا من دون الانجرار لمواجهة مباشرة.

لماذا تُصر أوروبا على التضحية؟ الجواب في شوارع برلين!
السر الحقيقي لا يكمن في جنيف، بل في المزاج الشعبي الأوروبي. استطلاعات الرأي في ألمانيا وفرنسا وهولندا تُظهر تراجعاً تاريخياً في الاستعداد للقتال. جيل كامل نشأ على فكرة أنّ أوروبا مشروع رفاهية لا مشروع حرب.

في ألمانيا مثلاً، أغلبية واضحة من الشباب ترفض فكرة التجنيد الإلزامي، وتعتبر أنّ الوطن ليس حدوداً تموت دفاعاً عنها، بل بيئة تعيش فيها بسلام. هذا التحول النفسي هو أخطر ما تواجهه القيادة الأوروبية اليوم. دول بلا شبان مستعدين للقتال لا يمكنها أن تخوض حرباً مهما كانت دوافعها. لذلك أصبحت أوكرانيا بالنسبة إلى الغرب "حلاً مثالياً": ساحة بعيدة، شعب مستنزَف لكنّه مستمر، وجبهة مفتوحة تجعل روسيا مشغولة لسنوات.

في الوقت نفسه، تحاول أوروبا تعويض غياب جاهزيتها العسكرية بزيادة مستوى تحشيد حلف "الناتو" ورفع رقم الجاهزية إلى 800 ألف جندي. الخطوة تحمل دلالتين: اعتراف بأنّ الحرب لم تنتهِ، وإقرار بأنّ أوروبا وحدها لا تستطيع خوضها.

في البعد النفسي - الاجتماعي، تبدو أوروبا كقارة فقدت علاقتها بفكرة الحرب كلياً. مجتمعاتها اليوم لا تشبه مجتمعات 1914 أو 1939، بل أشبه بمدن مترفة لا تملك القدرة ولا الرغبة ولا المزاج للعودة إلى الملاجئ والقنابل. هذه الهوة بين الحكومات وشعوبها دفعت أوروبا للبحث عن بديل… ووجدته في أوكرانيا.

كييف.. بين التضحية والواقع
يقف زيلينسكي الآن في نقطة شديدة الهشاشة. من جهة، الخطة الأميركية تمثل فرصة، وإن كانت موجعة، للابتعاد عن الهاوية. ومن جهة أخرى، أوروبا تريد استمرار الحرب لأنّها المعركة الوحيدة التي تؤخر المواجهة المباشرة مع روسيا. وما بين الاثنين، يقف الشعب الأوكراني المنهك كضحية دائمة لقرارات لا تُصنع في كييف، بل في واشنطن وبروكسل وبرلين وموسكو.

ومع كل يوم تأخير في حسم المسار السياسي، تتآكل بنية الدولة الأوكرانية بشرياً وعسكرياً، وتتحول إلى ساحة صراع طويل الأمد قد تفقد خلاله ليس فقط أراضيها، بل قدرتها على العودة كدولة مستقلة القرار.

وفي حال فشلت مفاوضات جنيف، فإنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً هو حرب استنزاف طويلة تُنهك أوكرانيا بالكامل، بينما تتقدم روسيا تدريجياً، وتستخدم أوروبا هذه الفترة لإعادة بناء منظومتها الدفاعية، في زمن يزداد فيه اليمين الشعبوي صعوداً، والاقتصاد الأوروبي تباطؤاً، والشارع رفضاً للحرب.

لذلك يبدو المشهد وكأن أوروبا تشتري الوقت بدماء الآخرين، وتخوض صراعاً وجودياً من دون أن تخسر شيئاً من رفاهيتها الداخلية، فيما تتحول أوكرانيا إلى العملة الأكثر تداولاً في سوق الأمن الأوروبي، وإلى الثمن الذي تدفعه القارة العجوز لتؤجل مواجهة تعرف أنّها قادمة مهما طال الزمن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.