لم يفت علي العميم الاطلاعُ على الطبعة الأولى (كما أشرتُ في المقالة السابقة) من أشهر كتب دن «مقدمة لتاريخ التعليم في مصر الحديثة» فحسب، بل حتى على طبعة عام ١٩٦٨م التي أشار إليها في دراسته (ص١١ من ترجمة «الاتجاهات» دار جداول). ودليلي على ذلك أنه ذكر في دراسته: «زيارته [دن] الأولى لمصر كانت في سنة ١٩١٩م، وهذه المعلومة مستقاة من أرشيفه الشخصي في مصر» دون أن يدرك أن هذه المعلومة الواردة في أرشيفه هي ذاتها المقدمة التي كتبها دن لكتاب «التعليم» في الطبعة الأولى، وأعيد استخدامها في طبعة عام ١٩٦٨م مع حذف الإهداء في الأخيرة.
يذكر العميم في دراسته أن كتاب تاريخ التعليم الذي كتبه دن أعيد طبعه عشر مرات ما بين سنة ١٩٣٨م وسنة ١٩٦٨م، وهذه معلومة أشك في دقتها. الطبعات التي وقفت عليها ثلاث: طبعة لوزاك وشركاه عام ١٩٣٨م، وطبعة فرانك كاس وشركاه عام ١٩٦٨م، وطبعة روتلدج ريفايفلز عام ٢٠١٩م
لم يشتمل الأرشيف الشخصي لدن على أي وثائق مطبوعة تشير إلى علاقته بمصر، التي بدأت عام ١٩١٩م، سوى هذه الورقة:
المقدمة المشار لها
وكما ذكرت، هذه هي ذات المقدمة التي استخدمت في طبعتي كتاب دن عن التعليم، وظن العميم بناء على إفادة «إليسك إدورد» أنها من أوراقه الشخصية.
هذه المقدمة وجدتها في الأرشيف ضمن أوراق طبعت على عجل عنوانها بالفرنسية: «دورة تعليم المصرية العربية المحكية» قدمها جيمس هيوارث دن بمعاونة الشيخ محمد محمود جمعة، محاضر العربية في كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن. في مقدمة أوراق هذه المادة، كتب دن هذه القطعة في سبتمبر ١٩٣٨م: «علاقتي بمصر ترجع إلى العام ١٩١٩م ولكن لم يكن حتى العام ١٩٣٣م حين بدأت أجمع مواد هذا العمل. (...)» هذه المقدمة، والتي كانت في أوراق الطبعة الأولى لـ«دورة تعليم المصرية العربية المحكية» كانت ضمن مشروع عمل عليه دن مع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» والذي سآتي في تفصيله لاحقا في هذه الدراسة. هذه المقدمة حُذفت في الطبعات اللاحقة التي وقفت عليها لدورة المصرية المحكية.
ذكر دن أن علاقته بمصر بدأت عام ١٩١٩م، وقد فهمها العميم - وهو مخطئ - أن زيارته الأولى لمصر كانت في هذا العام. فمتى كانت زيارة دن الأولى لمصر؟ ومتى بدأت علاقته بها؟
أثناء بحثي عن إجابة لهذين السؤالين، اطلعت على تقرير سري كتبه الدبلوماسي البريطاني تشابمان-أندروز القائم بأعمال السفارة البريطانية في القاهرة ردا على زميل له اسمه برنارد (لا يتضح لي من هو برنارد ويظهر أنه دبلوماسي بريطاني مهتم بملف الإخوان في مصر)، حيث سأله عن ج. هيوارث دن وكتابه الاتجاهات، فكان رد تشابمان هو الخطاب التالي:
السفارة البريطانية،
القاهرة. رقم الخطاب: 10336/2/50
٢٢ مايو، ١٩٥٠م. سري
عزيزي برنارد،
شكرًا جزيلاً على رسالتك رقم 10336/2/50 المؤرخة في ٣ مايو. تم الآن حظر مجلتي «لايف» و«ساترداي إيفننق بوست» في مصر.
فيما يتعلق بـ هيوارث-دن، فأنا أعرفه جيدًا، بل في الواقع أعرفه جيدًا جدًا لدرجة أنني فضّلت الحصول على رأي حول كتابه من شخص لا يعرفه. لذا، استشرت موريس، مساعدنا الحالي لشؤون الشرق، وهو عالم بارع في العربية وأقدر رأيه في المسائل السياسية. هذا ما قاله موريس:
«لقد قرأتُ كتيب هيوارث-دن، وهو يضمّ كمًّا كبيرًا من المعلومات، لا سيّما حول جماعة الإخوان المسلمين، لم يسبق لي أن رأيتها مجتمعة من قبل. ومع ذلك، يبدو أنه يفتقر تمامًا إلى أي ترتيب منطقي؛ إذ تُطرح الحقائق واحدة تلو الأخرى، كما لو أنها خطرت للمؤلف بشكل عشوائي، بينما تفتقر عناوين الفصول والفقرات إلى أي صلة واضحة بمحتواها. وباختصار، في حين قد يكون الكتاب مفيدًا لمن لديه معرفة مسبقة بالخلفية، أرى أن أي قارئ يطّلع على الموضوع للمرة الأولى سيجد نفسه في حيرة تامة عند بلوغ نهاية الكتاب. علاوة على ذلك، فإن تراكيب الجمل الإنجليزية تبدو أحيانًا كما لو أنها كُتبت على يد شخص شبه أمي»
هناك، بالطبع، بعض الأحكام الغريبة، على سبيل المثال الجملة المسطرة في الصفحة ٤٨: «لن يكون من الممكن قمعها (أي هذه القوة القوية) إلى أجل غير مسمى لأنها تعبير عن الشعب». يشير هذا إلى «اتحاد شباب الأحزاب والجماعات السياسية» الذي تأسس في سبتمبر ١٩٤٧م، وكما أعرف، كان محتضرًا منذ ولادته.» انتهى كلام موريس
اعتنق هيوارث-دن الإسلام منذ نحو عشرين عامًا، دون اكتراث عميق به، وكان يُعرف في المجتمع الإسلامي باسم جمال الدين. كما أن معرفته باللغة العربية الفصحى ممتازة جدًا. في الواقع، هو عبقري لغوي، إذ يمتلك إلمامًا بعدة لغات شرقية وأوروبية، رغم أن العربية تظل تخصصه الرئيسي.
أول معرفته باللغات الشرقية والشرق كانت، على ما أعتقد، خلال الحرب العالمية الأولى، عندما جاء إلى هنا جنديًا، فتعلّم العربية واهتم بالشرق في أوقات فراغه. وبعد الحرب، عمل في التعليم العام في مصر، حيث اجتهد في تحسين لغته العربية وجمع المواد لكتابه عن تاريخ التعليم المصري. ثم عمل محاضرًا في اللغة العربية لبعض الوقت في جامعة لندن، حيث يُعتقد أنه حصل على أول شهادة جامعية له. أما بالنسبة للتعليم النظامي، فأظن أنه لم يتلقَ أي تعليم رسمي.
كانت معرفته الأولى بالحياة الجامعية الإنجليزية كمحاضر، وأذكر كل هذا لأنه يعكس تقديرًا كبيرًا له، ولكن في نفس الوقت، يوضح سبب كونه شخصًا مشتت الذهن إلى حد ما. تم استدعاؤه إلى هنا خلال الحرب من قبل [الجنرال] كلايتون، الذي كان يعرفه جيدًا وكان يقدّر قدرته على البحث والاستقصاء. هو بالتأكيد شخص نشيط للغاية ومتحمس في مجاله، لكن مشكلته أنه يتسرع ويتبع أشياء غير مترابطة بلا تمييز. بكلمتين، مع كل مواهبه، يفتقر إلى حسن التقدير.
بعد الحرب الأخيرة، حاول لفترة من الوقت العمل في التجارة، لكنه سرعان ما غادر إلى الولايات المتحدة، حيث سمعتُ لاحقًا أنه انضم إلى هيئة التدريس في كلية الخدمة الخارجية الأمريكية، أيًّا كانت طبيعة هذه المؤسسة. قد تكون هذه المعلومة غير صحيحة، لكن هذا ما سمعته قبل عدة سنوات.
إذا رأيته، من فضلك أبلغه سلامي.
المخلص دوماً،
إي. إيه. تشابمان-أندروز.
يذكر تشابمان-أندروز أنه كان لدن زوجة توفيت حوالي عام ١٩٤١م بعد إصابتها بحادث سير، وأنه بعد ذلك تزوج من مصرية من عائلة جيدة، واستمرت كزوجة له حتى انقطعت أخبار دن عن تشابمان في نهاية الأربعينيات الميلادية. ويذكر أنه يعتقد أن معرفة دن الأولى بمصر كانت خلال الحرب العالمية الأولى حينما جاء كجندي واستمر في التعلم ثم التعليم قبل انتقاله كمحاضر للغة العربية في جامعة لندن. وهذه كلها سوابق.
ولكن إذا كانت علاقة دن بمصر لم تبدأ حتى العام ١٩١٩م كما ذكر دن، فهل يعقل أن زيارته الأولى لمصر كانت تحت إطار الحرب العالمية الأولى–التي انتهت في نوفمبر ١٩١٨م؟ ولماذا تفادى جيمس هيوارث دن الإشارة لسبب مجيئه لمصر لأول مرة في كل أوراقه وكتبه وحتى أرشيفه الشخصي؟
سآتي في تفصيل هذا لاحقاً.
مما يثير التساؤل أيضاً: إذا كان لدن زوجة توفيت عام ١٩٤١م، وكانت له زوجة اسمها فاطمة أهدى لها كتابه الذي طبع عام ١٩٣٨م، وكان له زوجة اسمها فاطمة في بداية الخمسينيات الميلادية كما تشير أخبار صحفية سآتي في تفصيلها لاحقا، فهل خبر وفاة فاطمة عام ١٩٤١م الذي ذكره تشابمان -وغيره- غير صحيح؟ أم أن جيمس هيوارث دن تزوج بفاطمين؟
الحقيقة هي: نعم، تزوج دن بفاطمين. وقبل الحديث عن حياته الزوجية سأفصل قليلا في حياته العائلية.
كان مسقط رأس جيمس هيوارث دن عام ١٩٠٢م (وليس عام ١٩٠٦م كما يشير العميم في دراسته ص٨١ ولا عام ١٩٠٤م كما يشير في ص٨٤) في مايل إند في لندن (توفي يوم ٩ يونيو عام ١٩٧٤م في كولشستر، إسكس، إنجلترا) لوالده جيمس هيوارث دن (توفي يوم ١٦ أبريل ١٩٦٠م بعمر ٧٩ عام في بريطانيا)، ووالدته ميتا فيليبينا ستارك (توفيت يوم ٣١ يناير ١٩٦١م في استراليا–وقد انفصلت عن والد دن منذ عقود).
تزوج دن في حياته أربع مرات (وليس ثلاث كما أشار العميم). زوجته الأولى «فاطمة» ولدت عام ١٩٠٤م وتزوجها دن عام ١٩٢٧م في مصر وانتقلوا سوية إلى بريطانيا من مرفأ بورسعيد يوم ١٣ يوليو ١٩٢٨م ووصلوا يوم ٢٣ يوليو ١٩٢٨م. «فاطمة الأولى» توفيت في مصر في حادث سيارة يوم ١٢ أكتوبر ١٩٤٠م. بعد ذلك بأشهر قليلة، وتحديدا في ٢٧ يناير ١٩٤١م، تزوج دن من «فاطمة لطفية عبداللطيف» في القنصلية البريطانية في القاهرة. «فاطمة الثانية» ولدت في ١٩١٩م في الزقازيق، ورزق منها بابنيه الوحيدين جيمس ومِلاكة جنان (ولدت ملاكة يوم ٤ يونيو ١٩٤٧م وتوفيت ٨ سبتمبر ١٩٧٠م)، وهربت «فاطمة الثانية» من دن في يوم ١٠ يونيو ١٩٥٤م (سآتي في تفصيل هروبها)، وتوفيت عام ١٩٩٢م. زواجه الثالث كان من الممثلة روحية خالد، وكان الزواج كما استنتجت في ١٩٤٦م-١٩٤٧م ولم يستمر سوى بضعة أشهر. وكان زواج دن الرابع من ألما بياتريس بيانكا يوم ٢٣ يناير ١٩٥٨م. ألما ولدت يوم ١٧ فبراير ١٩٢٩م وتوفيت ١٦ يونيو ٢٠٠٣م.
هروب فاطمة زوجة دن له روايتان. الرواية الأولى، والأشهر، هو أن اختفاءها جاء بعد ٢٤ ساعة فقط من إبلاغه لها أنه يعتزم اتهام الحكومة المصرية على ترحيله بشكل غير قانوني من القاهرة. والرواية الثانية تتضح من ثلاث أخبار صحفية. الأول نشر في صحيفة «إيفنينغ ستاندارد» يوم ١٢ نوفمبر ١٩٥٦م بعنوان «أستاذ جامعي يرفع دعوى طلاق»، والثاني نشر في صحيفة «إيفنينغ ستاندارد» يوم ١٢ أبريل ١٩٥٧م بعنوان «أستاذ جامعي يفوز بحكم ضد زوجة». والثالث نشر في صحيفة «ديلي تلغراف» يوم ١٣ أبريل ١٩٥٧م بعنوان «حكم الطلاق مُنح لأستاذ جامعي».
تقول هذه الأخبار أن هيوارث دن رفع للمحكمة أن زوجته أقامت علاقة غير شرعية مع دبلوماسي في السفارة الفارسية في الولايات المتحدة اسمه فازي راد، وأقامت معه زواج إسلامي في القاهرة عام ١٩٥٣م. وقد رفع دن دعوى الطلاق في محكمة الطلاق في لندن، وحصل على حكم أولي بالطلاق. المحكمة منحت جيمس حضانة طفليهما، كما أمرت القاضي غلازبروك الدبلوماسي فازي راد بدفع تكاليف القضية. ولم تدافع فاطمة عن نفسها في القضية، مما سهل على المحكمة الحكم لصالح دن، وقد أبدى القاضي تساهلًا معه رغم أنه اعترف بسوء سلوكه سابقًا.
زوجة دن الثانية «فاطمة عبداللطيف» جاء ذكرها في خبر اصحيفة «إيفنينغ ستاندارد» المنشور يوم ١٢ نوفمبر ١٩٥٦م وخبر صحيفة «إيفنينغ ستاندارد» المنشور يوم ١٢ أبريل ١٩٥٧م على أنها «حفيدة رئيس وزراء مصري سابق» كما هو ظاهر في الخبرين بالأسفل.
خبر صحيفة «إيفنينغ ستاندارد» المنشور يوم ١٢ أبريل ١٩٥٧م
الخبر الذي نشر في صحيفة «إيفننق ستاندرد» يوم ١٢ إبريل ١٩٥٧م، وتظهر فيه صورة فاطمة عبداللطيف
أحد الأخبار التي نشرت مبكرا عن هروب «فاطمة عبداللطيف» كان خبرا نشرته صحيفة «ذا برمنغهام إيفننق ميل» يوم ١٥ يونيو ١٩٥٤م ومما ذكر فيه أن «الدكتور هيوارث دن خدم في سلاح الجو الملكي من عام ١٩١٩م حتى عام ١٩٢٢م. في عام ١٩٢٠م تم إرساله إلى مصر وبدأ في دراسة اللغة العربية. من عام ١٩٢٢م إلى عام ١٩٢٨م كان يدرّس في المدارس الثانوية المصرية ودرس في جامع الأزهر. في مايو ١٩٣٩م. حصل على درجة دكتوراه في الآداب كطالب داخلي».
خبر صحيفة «ذا برمنغهام إيفننق ميل»
هذا الخبر فيه أسبقية الذكر أن دن كان جنديًا في سلاح الجو البريطاني، وأن رحلته الأولى إلى مصر جاءت في هذا الإطار عام ١٩٢٠م، بعد التحاقه بالخدمة في سلاح الجو الملكي عام ١٩١٩م. وقد أخطأ العميم حين ظن أن هذه العلاقة التي بدأت عام ١٩١٩م تمثل تاريخ أول زيارة لجيمس هيوارث دن إلى مصر.
وللحديث بقية.