يختلف مذهب التوحيد عن غيره من المذاهب الإسلامية في إعلائه شأن العقل، والذهاب في هذا الإعلاء أبعد من بقية المذاهب. حتى كان عندهم للعقل شيخًا.
وعلى الرغم من هذه المكانة التي يحتلّها العقل، وما يستتبعه من أمور دينية تقضي بالتمييز بين "العقال" ممن انصرفوا إلى العبادة قليلاً أو كثيرًا، زهدًا أو تصوّفًا...، وبين من لا يزال على خطى المادة كما يتجلّى في تسميتهم بالـ"جسمانيين" أو الـ"الجهَّال" قطعًا بجهلهم بالشريعة، أو بمضمون مذهب التوحيد الذي يستقيه الموحّد بتدرّجٍ يشبه تدرج التحصيل العلمي في المدرسة، يتقدّم فيه الطالب مرتبة تلو أخرى ليصل المرتبة الأولى، أو على الأقل في هذه الحال- يقربها ولو من بعيد، وينضوي تحت لوائها، وقد تحرّر من حُكم الولادة والموت، وحلّ في عالم ضيائها، شريطة اقتران هذا التقدّم المعرفي في الدين وأسراره بالارتقاء الروحي، والمعرفي الكلّي.
وبإعلاء العقل، ونظرًا لكون مذهب التوحيد مذهبًا باطنيًا، فاق – ربما – بقية المذاهب الجعفرية في مدى التأويل، وبالتأكيد المذهب الحنفي، الذي يجمع المذهب بينهما في أساسه، بغض النظر عن الاختلافات في التفسير، والتشريع المرتبط بالتفسير؛ بإعلاء العقل إذًا يتوقع المرء أن يكون العقل هو الحاكم والحَكَم.
ولأنَّ العقل لا يقبل بالجمود، ولا بالقهقرية، ولا بالاستكانة إلى الأمس إلاّ استئناسًا بأخذ العِبر، والأمثولات، يكون ما يجري اليوم على الساحة "الدرزية" – مع التحفّظ على هذا اللقب الذي أطلق على أتباع مذهب التوحيد إهانةً لهم، لكنّهم قهروا المُغرضين عبر تاريخهم ووقائعهم فشرّفوه – ما يجري اليوم إذًا على الساحة الدرزية، من خلف شاشات الكومبيوتر، والمحطات الإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي، صوتًا و/أو صورة، أو من خلف حجاب الأسماء المستعارة، والكلمات التي تنقط على بياض الصحائف سوادًا؛ يكون ما يجري اليوم عقلاً تمرّست فيه لذّة التشفّي، والتّجني، والفِتنة، وقد بدّل في جلوده تبديلاً.
ما يجري اليوم على الساحة "الدرزية" عقلاً فقد القاف وربط لامه بتاء مربوطة، ورفع الصوت: "يا 'غيرة الدين'!".
الغيرة على الدين محمودة إذا كان الدفاع عنها برقي الدين الذي عليه يُغار، وعنه يستميت البعض في الدفاع. ولكن، عندما يُدافعُ عن الدين – والحقيقة هنا عن مذهب التوحيد ومفهومه وماهيته – من لا يتحلّى بأبسط أخلاقيات التوحيد، وأبسطها، مما هو مفطور عليه الإنسان "المتحضّر" بالفطرة، ألا وهو أدب الحوار، بعيدًا عن المسّ بالكرامات، والمقامات؛
وعندما يدافع عن مذهب التوحيد من لا يتحلّى بأبسط أخلاقيات التوحيد، كعفّة اللسان، والقلم كذلك من اللسان، وصدقهما، ومن يجعل من ذمّته ثقبًا أسود يستوعب كل ما يقربه وما لا يقربه - والعقّالُ من أحرص الناس على عدم تحميل ذمّتهم ما يثقلها، أو يضنيها، وكذلك كل موحّد مؤمن بأخلاقيات التوحيد، وإن كان بعيدًا عن ممارسة الشعائر؛
عندما يكون من يدافع عن مذهب التوحيد يعتمد على الاغتياب والنميمة، ورمي الاِتهامات من دون تقديم الأدلة، فإنَّه يدافع عمّا لا ينتمي إليه ولا يمتُّ إليه بصلة. فكلامه صفاقة والتوحيد دعة؛ وكلامه تجنٍّ والتوحيد إنصاف؛ وكلامه ضلالة والتوحيد حقٌّ؛ وكلامه اِغتياب والتوحيد أمانة؛ وكلامه إثمٌ والتوحيد نجاة؛ وكلامه كذب والتوحيد صدقٌ؛ وكلامه وقاحة والتوحيد حياء؛ وكلامه أخلاق بلا عِقال والتوحيد عَقل وارتقاء؛ وكلامه فِتنة والتوحيد فلاح وصلاح.
لذا، فمن يريد الانتصار للموحدين، والدفاع عن التوحيد، أو وضعه كشعار يتغنّى به، فليتماهى بالتوحيد أولاً في الشكل والمضمون، في السيرة والمسيرة، في اللفظ والبيان، وليتوقف عن رمي الاتهامات من دون بيّنة أو برهان.
كلنا سنشهد يوم الحساب، بغض النظر عن تقلّبنا في الأجيال، ومن يريد أنْ يلقى ربّه غير خائب أو خائف، فليتفكّر "بالعقل" الذي أعطيناه في أنَّ كل امرئ سيحاسب لذنبه هو لا لذنب الآخرين، لذا فكل ما يقوله أو يفعل، إنّما يُسطر في صحيفته، ويسجّل في متون دفاتره؛ يبقيه رهنَ الموت والولادة، أو ينجيه من التقلّب في الأدوار، ويبلّغه الفردوس المنشود.
إنَّ أخطر ما يحيط بمحنة العقل عند الموحدين اليوم، أنَّ من يفهم في المذهب، هو من يبرّر لنفسه ما يفعله في سبيل يرى – للأسف – ما عُرف من تغنّي اليهود به من أنَّ الغاية تبرّر الوسيلة. وهو ما نشأنا على خطئه، وضرورة عدم اعتماده، لأنَّ الغاية لا يمكن في التوحيد أن تبرر الوسيلة، ولا أن تُبيح الضرورات المحذورات.
من يدّعي أنَّه إنما يبحث عن إنصاف المظلومين من أبناء الموحدين، وتحصيل حقوقهم، إنّما هو من يزرع الفتنة في قلب هذه الجماعة، أو الطائفة، ويُشعل فيها حربًا تشبه في آثارها المدمرة الصراع القيسيّ اليمني، والصراع الذي استحدثه الأمير بشير الشهابي الثاني بين الجنبلاطيين، وأتباع يزبك العماد الذين عُرفوا باليزبكيين.
ومن يحتكم إلى التاريخ بموضوعية، ويتابع ما يجري اليوم، على الساحات كافة لا اللبنانية والدرزية فحسب، يمكنه أن يستنتج من أنَّ ما يجري من الأبواق التي تعوّدنا عليها وتلك المستجدّة، وما يصدر عن الأقلام السوداء إنّما هو دق لأول إسفين في نعش هذه الطائفة، التي، ومنذ زمن الكشف، وبعد الغيبة، لم تختبر إلاَّ المحن المتتالية، التي هانت فداء للعرض والأرض من أن يدنسها المعتدي الغريب، واليوم هي قيد تدنيس من قريب.
والقصّة هنا ليست قصّة نصرة للتوحيد، وضرورة "تنقيته" ممن لم يولدوا من رحم امرأة موّحدة، ولا هي قصّة تحرير لمشيخة العقل من سلطة زعماء الطائفة كما يدّعون، ولا هي عودة إلى الأصول الصحيحة التي لا نعرف إلى أي زمن تنتمي – على غرار من ينادي بالإسلام الصحيح ولا يحدد أهو الإسلام يوم كان ميثاق المدينة زمن النبي محمد صلّى الله عليه وسلـّم، أو هو الإسلام في زمن الخلفاء الراشدين، وفي زمن أي خليفة، أو في عصر بني أمية أو بني عباس، أو حتى العثمانيين؟
القصّة ليست نصرة للتوحيد، ولا دفعًا لضيم عن الموحّدين، إنما هي قصّة وقتٍ حان لكي تحقق الدول الاستعمارية بأعور دجّالها الأساس، الخريطة التي رسمتها لمنطقة الشرق الأوسط، ومنها إقامة دولة درزية تكون هي الفاصل بين الكيان الصهيوني وغيره من الدويلات الأخرى التي ستُنشأ. وقصّة أحقاد داخل قلوب الكثيرين من أبناء الموحدين عقّالاً وغير متدينين على دار المختارة، بما تمثّله من استمرارية في ترأس هذه الطائفة لأكثر ممن 500 سنة ربما. وقصّة إبعاد للاعتدال عن منصب مشيخة العقل الذي هو أكثر ما نحتاجه اليوم وغدًا ومستقبلاً.
القول هنا ليس دفاعًا عن المختارة، فتاريخها خير شاهد لها، وعليها. والقول هنا ليس دفاعًا عن شخص مشيخة العقل، وإنْ كان الشيخ الدكتور سامي أبي المنى هو الشيخ الذي نطمح إليه باعتداله، وانفتاحه، وحِلمه، وثقافته، وعِلمه، وبيانه، وقوله الذي نشأنا عليه شعرًا وخطابة. وما دامت الهيئة الروحية قد جُعلت لتهتم بالأمور الروحانية، وشيخ العقل لتسيير الأمور الزمنية للموحدين، كما أُريدَ لها زمن سماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا الذي وضع المؤسسات، وأنشأها، ونظّم الأوقاف؛ وبما أنَّ الموحدين ليسوا عقالاً فقط، وبما أنَّ الزمن يتقدّم ولا يتقهقر إلاَّ في الذاكرات الفردية أو الجَمعية، فإنَّ غير المتدينين من الموحدين يحتاجون من كان هو الشيخ سامي أبي المنى، ومن هو كالشيخ الدكتور سامي أبي المنى، ليكون العقل الذي يستمع إليهم، ويفهمهم، ويتواصل معهم من دون تصنيفهم، أو تكفيرهم، أو إخراجهم من دائرة التوحيد، كما يطيب لبعض المتدينين أن يطلق على غير المتدين.
أمَّا بالنسبة إلى المختارة، فالتصويب عليها، والانتصار للشيخ موفق طريف أو غيره من المشايخ الذين تصنع إنجازاتهم دولة الاحتلال، وتلمّع صورهم، ليكونوا هم يدها الميسّرة في تحقيق مآربها – إنّما هو تصويب على خط العروبة واستهداف له، وانتصار لصورة المأدبة التي كانت على شرف نتنياهو والأرز يفوح منه عبق الدم، وقد نُثر تحت قطع اللحم التي اقتطعت من جثامين أطفال غزّة، وأطفال جنوب لبنان – بغض النظر عن المواقف السياسية التي تُكَنُّ لحماس أو حزب الله.
التصويب على المختارة ليس رغبة بإقصاء سلطة الساسة عن الدين – كما يدّعون – بل هو رغبة بنقل السلطة إلى رجال الدين. كما هو تشفٍ من خطٍ انفتاح، ولا تقوقع، دعا منذ عقود إلى الزواج المدنيّ، ولم يرَ حرجًا في أن يقترن بمن اختاره القلب. وإذا كان بعض المتشدّدين من المشايخ يتخذون مواقف قاسية تجاه من يتزوج من خارج أبناء المذهب، ويتشددون في قراهم، ويتهاونون – وفقًا لهم – مع وليد بك جنبلاط، ووالده من قبله، وابنه وابنته. فهل المختارة، بمن وما تمثّل، هي من يصدر الأمر لهؤلاء المشايخ بمقاطعة من ولده اقترن بغير أبناء المذهب، أو بعدم الصلاة عليه، أو عدم رحمته، أو غير ذلك... الناظر للأمر برواسب ماضيه، وطبيعة القرن الحادي والعشرين، يرى أنَّهم – حقيقة – يريدون حرمان المختارة من إنسانيتها، بينما هم يطالبون بها لأنفسهم... يريدون معاقبة المختارة لانفتاحها، بينما هم يتفاخرون بفكرهم المنفتح على الآخرين.
ببساطة، هم يعيبون على المختارة ما يرتضونه لأنفسهم، ويناهضونها اليوم، وإنْ وقعت الواقعة، ستجدهم، هم الذين يغتابون ويرمون السهام اليوم، أول المسرعين إلى المختارة، والتاريخ يشهد.
أمّا من يستند في معارضته، ونباله على الدين، ويدّعي تنقية المذهب وأتباعه، إنّما النقاء على الأرض مستحيل، والعقل يقضي أنَّ العلم لله وحده، والحقيقة ملك له لا غير – وإنْ لم تقل الكتب – والتشدد هو الذي يُنفر أبناء هذا الجيل من التوحيد ويدفعهم خارجه لأنَّ موقفهم ينسحب على المذهب انطلاقًا من المتزيّ بزيّه؛ وعدم وجود مأسسة للتعليم الديني، ليتعرّف الموحّد على مذهبه؛ والمناداة بحصر المصادر بسائسي المجالس، عامل إقصاء جديد.
قال الشيخ أبو حسن عارف حلاوي إنَّا قوم لا نعتدي، لكننا لا نقبل أن يعتدي علينا أحدٌ، فمن اعتدى ليس منّا، ومن لم يردّ الاعتداء ليس منّا. وعليه، إذا نهضت لتطلب الإصلاح في مذهبك، فلا تعتدِ، واطلبِ الإصلاح بأخلاق هذا المذهب وأبعاده الروحية، واتصف بما تنادي به، ولا تكن سُكينًا قد بُعث حيًّا، ولا الدَرَزيَّ نشتكين. فلا إمامًا غير إمام الزمان، ولا وليًّا لفقيه، ولا إكليروس، والعقل يقرأ القرآن والرسائل وشرح الإمام السيد، وهو قادر على الفهم، ولو لم يأخذ ذلك معه الوقت اليسير. فلا المذهب مُلك من تزيّا، ولا النصّ بعصيٍّ على المتلقّين، ولا حساب النفس على الآخرين.