: آخر تحديث

حكايتي مع علي الوردي

44
48
23
مواضيع ذات صلة

قبل التحاقي في قسم الاجتماع عام 1968 كنت قد قرأت عدّة كتب لعالم الاجتماع العراقي الكبير على الوردي، ونظريته حول الشخصية العراقية بخصوص (ازدواجية الشخصية). يومها كانت لي أفكارا تتعارض مع مضامين كتبه ومنهجه التاريخي، كما فعل بن خلدون في تفسير الظواهر الاجتماعية. كان الوردي لا يملّ من تكرار موضوع "الازدواجية الشخصيّة" في معظم كتبه واهتمامه بالوصف التاريخي، وتعميمه لنشأة الظواهر الاجتماعية والتاريخية.

وربما كانت هذه الأفكار غير منسجمة مع المصادر الأولى لثقافتي المعرفية المتناقضة أيام الشباب المتأثرة بمنطق تفسير الظواهر على المنهج المادي التاريخي التي كانت تُستمد من مكتبة والدي آنذاك، حيث الولاء للفكر اليساري، وانتماءه للحزب الشيوعي العراقي. وبين تأثري بأساتذتي وبعض الطلبة ممن لهم اتجاهات دينية. واعترف بأنني أخذت مسارات فكرية منسجمة مع مرحلة النضوج الفكري، ومنحازة للإنسان وحقوقه وآماله في الحياة.   

أتذكر إنني لمجرد رؤية اسمي ضمن المقبولين في قسم الاجتماع تذكرت الوردي، وحلم اللقاء به، ومعرفة أفكاره عن قرب، وطريقة تدريسه، وشخصيته الحقيقية ومدى تطابقها مع أفكاره وسلوكه. لكنني حزنت جدا عندما عرفت إن الوردي، عدو (وعاظ السلاطين) لم يحضر الدرس الأول من مادة (المجتمع العراقي) لأنه قيل لنا بأن لديه ارتباط بمحاضرة خارج الجامعة. وقد أصبت بإحباط كبير لسماع هذا الخبر الذي أفقّدَ حلاوة فرح الدخول الأول للجامعة، وحلم مشاهدة المجتمع الجديد بعلاقاته المنفتحة بين الطالبات والطلاب الذي كان حلم الشباب آنذاك.                                                                                                 

كانت الصورة التي تشكلت في ذهني للوردي هي الصورة التي أراها في الصحف والكتب؛ الصورة التقليدية والنمطية المكررة. 

كانت رغبتي تزداد لرؤيته في الدرس الثاني، حيث شعرت بخفقان القلب تتسارع مع موعد دخوله للقاعة الدراسية، وكأنني مقبل على امتحان دراسي أو محاكمة لإعلان الحكم. لم تهدأ النفس إلا بعد دخوله القاعة وصعوده على المنصة، وإلقاءه المحاضرة الأولى في موضوع المجتمع العراقي وشخصية الإنسان العراقي. كان الوردي قصير القامة بنظارة حمراء كبيرة غامقة تكاد لا ترى عينيه إلا بصعوبة، حاملا حقيبة حمراء تشعر إن جسده يميل إلى الجهة التي يحملها بسبب حجمها الكبير وثقل ما موجود فيها من الكتب. وكان ما يميز شخصيته الأكاديمية “سدراته" البغدادية السوداء التي كان يلبسها على رأسه التي ميزته عن أساتذة القسم.

أما طريقة تدريسه فقد كانت أكثر إثارة وغرابة، فقد كان صوته يعلو بقوة مع حركات (بهلوانية) غير معتادة في قاعات الدرس، وكان يمزج المحاضرة بالجد والهزل والبساطة التي تصل إلى شكل (الحدوته). كان مستمعا جيدا، ويحب الاستماع إلى القصص والحكايات الشعبية العراقية من الطلبة، كأنه يريد استثمارها في كتاب جديد. أما أنا فقد كنت أراقب شخصيته وحركاته التي أبعدتني عن التركيز عن موضوع المحاضرة الأولى.                                                                                      

أما المحاضرة الثانية، فقد كانت من المحاضرات المثيرة التي كانت تمثل ولادة تصادم الرغبات والعلاقات والمشاكسات والحوارات. ولأول مرة بدأنا نناقش الوردي في أفكاره بنديّة، حيث بدأها أحد الطلبة من الأدباء الشباب بمناقشته عن الشخصية العراقية بطريقة لا تتفق مع رؤية الوردي وطروحاته الاجتماعية، وهو الأمر الذي شجعني أيضا إن ابدأ معه في الحديث عن (اللاشعور) استنادا على ما طرحه في كتابه (خوارق اللاشعور) وتأثيرها على بناء الشخصية.

وقتها شعر الوردي بمفاجأة من العيار الثقيل بأنه أمام طلبة غير عاديين، خاصة في المرحلة الأولى من الدراسة، بل كان يظن كما عرفنا منه لاحقا بأن الدولة أرسلتنا بهدف استفزازه والإيقاع به، خاصة وانه كان له حساسية كبيرة من الدولة، بل كان مصابا بمرض فوبيا حزب البعث.

أما الجانب الثاني من المحاضرة فقد أخذ منحى آخر من الهزل والضحك، فقد كان الوردي ممثلا بارعا في الحركات أثناء المحاضرة، فقد فاجأنا عند الحديث عن البداوة والتحضر انه نزل من المنصة وبدأ يرقص الباليه بحركاته المعروفة، حتى كانت ضحكات الطلبة تصل إلى الطابق السفلي من البناية. وكان صوتي القوي مميزا في الضحك مما أدى إلى توقفه عن الرقص، وطلب مني التوقف عن الضحك، وتزويده باسمي، حيث وضع علامة (اكس) أمام اسمي في دفتر الغيابات كعقوبة، وكان يقرأ اسمي متعمداً بعدة أسماء مرة (الياس) و(ياسر)و(ياسين) و(أياس)و(ياس)، وكان هذا الأمر يزعجني لأنني كنت راغبا بمعرفة اسمي بشكل صحيح!                                                                                                             

 ومن فضائل المحاضرة الثانية وطابعها الجدي والهزلي، أنها أسست لعلاقات قوية بين الطلبة، ورفعت حواجز الخوف بين طلبة المحافظات الريفية واهل المدينة، حيث توطدت العلاقات بشكل سريع بين الطلبة والطالبات، وبدأت تظهر علاقات عميقة، ومشتركات ثقافية ونفسية واجتماعية ساهمت في بناء الثقة. وربما كان السبب وجود هذا المحاضر الديناميكي المتعدد المواهب!                                                                                        

كان من حسن حظي إن أستاذي الوردي درسني لمدة عامين، وكانت هذه التجربة الثرية قد جعلتني اشعر بقدرات الرجل ومثابرته العلمية، وشخصيته النادرة، رغم إنني كنت أميل إلى محاضرات عالم الاجتماع د. عبد الجليل الطاهر العميقة في رؤيتها ومنهجها وتنوعها الفكري. وكان الطلبة بشكل عام يميلون إلى محاضرات الوردي ويحرصون على حضورها، لأنها كانت بسيطة وشعوبية وسلسسة. لكن هذا لا يعني بأن محاضرات الوردي لم تستهوينا، بل العكس كانت محطات متنوعة تمزج بين جدية العلم وتجارب المحاضر، وبين بساطة وعذوبة المعلومات وقربها من حاجاتنا كشباب، وديناميكية أسلوب المحاضرة بين الجد والهزل والمشاكسات وإثبات الوجود! 

لكن الحقيقة التي لا تقلل من محاضرات الوردي وعلميته، بأننا كنا نستمع لمدة عامين إلى محاضرات مكررة برؤيتها وموضوعاتها المتعلقة ب (الازدواجية الشخصية العراقية) و(الصراع بين البداوة والحضارة) و(التناشز الاجتماعي) وبالذات شخصية (ملا عليوي)، حتى أصبحت "الازدواجية الشخصية" نشيداً علميا لطلبة قسم الاجتماع في بداية السبعينات.                                                   

لم تنقطع مشاكستي للوردي في قاعات الدرس، بل امتدت إلى مكتبه في الكلية، وبيته الكائن في الكاظمية، وبدأ يثق بي كثيرا عندما عرف بأنني لست حزبيا آنذاك، وبدأ يسرد لي أفكاره الصريحة، منتقدا الفكر البعثي والقومي والشيوعي، وقال انهم جزء من أمراض المجتمع، ويمارسون ازدواجية كبيرة بين نظرياتهم وممارساتهم في ميدان الحياة والسياسة، بل فاجأني في احدى المرات بنصيحة مازالت في ذاكرتي (أنت شاب نظيف ومثقف ...ابعد عن هذه الأحزاب المريضة لأنها ستكون وبالاً كبيراً على العراق). وكأنه أستشرف المستقبل برؤيته العميقة.  

كان من فضائل (الأفندي) الذي يحب إن يطلق عليه كما قال لي، انه لا يعير للنقد أهمية، ولا ينزعج منه، ويحترم الرأي الآخر، بل يكتفي بالقول ويكرره (أنه يشبه السمك مأكول ومذموم)، ولم تنقطع علاقتي معه، حتى التقيته مرة في بودابست عاصمة هنغاريا إثناء دراستي الدكتوراه ومرة أخرى في وارسو عاصمة بولونيا في منتصف الثمانينات، وهو آخر لقاء معه، وآخر مشاكسة علمية مع الأنسان والمعلم الكبير للتاريخ، لم ينل الوردي حقه كعالم مجتهد، بل حورب في حياته، ومات مهموما، ومنبوذا من السلطات السياسية والأحزاب، وشغل الناس والنخب بأفكاره المثيرة، وفأسه النقدي لتحطيم الطوطمية الوهميّة، وأفكاره الاستشرافية التي توقع فيها أن تكون (غنية) كاستعارة لأسم العراق فالجميع يَطمعُ فيها، ويريد الزواج بها على فقه طوائفهم، ليس حبا بها وإنما طمعاً بثرواتها. مثلما توقع للعراق بأنه سيكون بين مد وجزر تحكمه العشائر والطوائف والقوميات.                                                     

كم كنت أتمنى أن يكون (الأفندي) المعلم شاهدا على شخصياته في مشهد العراق الحالي، ليرى العراق المتمثل برمز (غنية) الجميلة والثرية كيف يتم اغتصابها، وتُسرق مجوهراتها وثرواتها من أبناء جلدتها، ويتم تفقيرها وتدميرها، وكيف أصبح حال (ملا عليوي) العراقي المهموم بالحزن الأبدي، مريضا بالطائفية والعشائرية، وبداء ارتفاع منسوب الازدواجية، وأمراض كوليسترول التلوين والانتهازية والنفاق!                      


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي