: آخر تحديث

جلسة على مائدة الرئيس الحبيب بورقيبة

2
2
2

الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كان شخصية من نتح زمن تونسي وعربي بل وعالمي، شهد تحولات وصراعات وحروباً قادت إلى رسم خرائط تغيرت فيها حدود الكيانات، وتحرك فيها العالم بسرعة غير مسبوقة على مدى تاريخه الطويل. وُلد الحبيب بورقيبة في مطلع القرن الماضي، بمدينة المنستير بالشمال التونسي، في عائلة كبيرة من أصول ليبية. كانت تونس تحت الاستعمار التونسي الذي حكمها تحت عنوان الحماية. الأسرة الحسينية المالكة في البلاد من أصول كرغلية، أي من آباء أتراك وأمهات تونسيات.

تعلم بورقيبة في المدرسة الصادقية، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس الدين، واللغة، والأدب والتاريخ العربي، وتفوق في كل مراحل دراسته. كانت جارتا تونس ليبيا والجزائر تعيشان مقاومة ضد الاستعمار الإيطالي والاستعمار الفرنسي. ورغم أن في تونس ملكاً يُسمى الداي، فقد كانت واقعياً مستعمرة فرنسية، والمستعمرون الفرنسيون يملكون الأرض ومن عليها. سبق وعي الشاب الحبيب بورقيبة عمره، فبدت مشاعر رفضه المبكر للاستعمار الفرنسي مبكراً. انجذب لتيار المقاومة السياسية للاستعمار الفرنسي. وعندما سافر إلى فرنسا لمواصلة دراسته للقانون بجامعة السوربون، اندمج في المجتمع الفرنسي، بما فيه من حيوية سياسية وفكرية. وتزوج من فتاة فرنسية ستكون الأم لابنه الوحيد الذي أعطاه اسمه الحبيب. لكنه اعتنق قضية بلاده التي تعيش تحت طغيان الاستعمار الفرنسي، وانخرط في مسيرة النضال الطويل من أجل الاستقلال. اعتُقل في فرنسا وأُودع السجن. المفارقة التي تبرز مبكراً الشخصية الفريدة المميزة لبورقيبة، أنه بعد احتلال النازيين الألمان لفرنسا، أخرجوه من السجن مقابل أن يقوم بتأييد حكومة هتلر. رفض الحبيب بورقيبة العرض الألماني وكان رده: «أفضّل أن أكون سجيناً في ظل حكومة ديمقراطية، رغم أنها تحتل بلدي، على أن أكون طليقاً مؤيداً لحكم ديكتاتوري». خاض الحبيب بورقيبة معارك سياسية طويلة واجه فيها الاستعمار الفرنسي، واختلف واتفق مع قوى سياسية تونسية تقاوم الاستعمار الفرنسي. تولى زعامة تونس سنة 1957 عندما تمكن من إزاحة محمد الأمين باي، وأعلن الجمهورية التي أصبح أول رئيس لها. قاد البلاد بدهاء اختلطت فيه الحكمة بالمناورات المحسوبة، ومعرفة واسعة وعميقة بالتكوين الاجتماعي للبلاد. هادن فرنسا في البداية، ثم خاض معها معركة دموية في بنزرت عندما رفض الجنرال شارل ديغول الجلاء عن القاعدة العسكرية الفرنسية بها. أحبط محاولة انقلاب عسكري سنة 1962، واغتال غريمه السياسي صالح بن يوسف في ألمانيا.

في ستينات القرن الماضي، عاشت المنطقة العربية مرحلة تلاطمت فيها السياسات والآيديولوجيات. تيار القومية العربية الذي قاده الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ورفيقه اللدود حزب البعث العربي الاشتراكي. الحبيب بورقيبة كان السياسي الذي عرف العالم الجديد، ومكونات القوة فيه، كان همه تأسيس دولة حديثة في بلاده، تقوم على تحقيق نهضة الأمة بالتنمية البشرية، عبر التعليم وتحرير المرأة والسلم الاجتماعي، وتجاوز القبلية والجهوية.

هل كان الرئيس الحبيب بورقيبة، يغرد خارج أسراب الأحلام العربية التي تعزفها خطابات بعض القادة في المشرق العربي، وينقلها جهاز الراديو الجديد، وتسطرها الأقلام الآيديولوجية في الصحف والكتب؟ نعم، قيل عنه ذلك، بل كان هدفاً لسهام الأصوات والحروف. كان يرد على ذلك بالصمت، أو بسخرية هادئة وهو يبتسم. كان يسمي حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب العبث العربي. وعندما قال أحد البعثيين، إن الحبيب بورقيبة لا يؤمن بالإسلام، ردّ عليه بورقيبة بالقول: «أنا الحبيب بن علي بورقيبة، لست مسلماً، وسي ميشيل عفلق هو اللي من الصحابة؟!».

الحبيب بورقيبة كان قارئاً موسوعياً، تعلق بالشعر العربي بلا حدود، وعشق أبا الطيب المتنبي، وكان يحتفظ بديوانه، وحفظ الكثير من قصائده وكذلك المعلقات، وتبحَّر في الأدب الفرنسي. في جلساته الأسبوعية التي يجريها يوم الأحد على مائدة الغداء، مع نخبة تضم بعض الوزراء وغيرهم من كبار المسؤولين، يستحضر محطات من التاريخ العربي والإسلامي، وأبياتاً من الشعر العربي تكون رسالة تحمل النصيحة، التي لا تخلو من لمسة أبوية. كان يردّد وهو يجلس مع معاونيه على طاولة الغداء، بيت أبي الطيب المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

وكان بورقيبة يحب السموأل، ويحفظ الكثير من شعره، ويستحضر أبياتاً من قصائده، ويردد قوله:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميلُ

وحفظ الكثير من شعر أبي القاسم الشابي الذي أُخذت أبيات من شعره لتضمَّن في النشيد الوطني التونسي.

كانت للحبيب بورقيبة حاسة سياسية خارقة. يقرأ الأحداث برؤية تستطلع آفاق القادم. عندما قاد جعفر النميري انقلاباً عسكرياً في السودان في مايو (أيار) سنة 1969، استدعى بورقيبة سفيره لدى ليبيا الطيب السحباني بشكل عاجل. أعطاه رسالة إلى الملك إدريس السنوسي، قال له فيها: «إن النار تقترب من برنسك. أعرف أنك زاهد ومتفرغ لقراءة القرآن والأدعية، لكن عليك الآن أن تنتبه، ما حدث في السودان يدق باب ليبيا». ذلك هو الحبيب بورقيبة الذي فكَّ شفرة زمانه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد