: آخر تحديث

هندسة الانطباع الأول

3
3
3

حين تخطط الشركات لإطلاق منتج جديد أو دخول سوق مختلفة، فإن الملايين تُنفق على الحملات الإعلانية، والموازنات تُراجع بدقة، ولكن ما لا تدركه بعض هذه الشركات أن القرار الأول في ذهن العميل قد يُبنى في أقل من 7 ثوانٍ وهي لحظة عابرة، لكنها قد تُحدد مصير العلاقة بأكملها.

هذا ليس رأيًا تسويقيًا، بل علم. فوفقًا لأبحاث أستاذة علم النفس الاجتماع بجامعة هارفارد إيمي كادي، يبدأ العقل البشري فورًا بتقييم الطرف الآخر بناءً على مؤشرين: الثقة والكفاءة. في عالم الأعمال، ذلك لا يختلف، كل شيء من نبرة صوت ممثل خدمة العملاء، إلى تصميم صفحة الهبوط في موقعك يتعاون مع الدماغ لتكوين حكم سريع، يُعرف في علم الأعصاب السلوكي بـالقرار الحدسي السريع.

وعلى سبيل المثال شركة مثل (Salesforce) تتقن هذه الطريقة بدقة، ليس فقط في عروضها، بل في البيئة التي تستقبلك فيها: مساحات مفتوحة، تفاصيل تصميمية دافئة، وآلة قهوة تقدم لك مشروبك كما تحب. والهدف؟ أن تخرج بانطباع أنك شريك، لا مجرد صفقة. حتى الرائحة الخفيفة في القاعة ليست صدفة فقد أظهرت دراسات علم الأعصاب أن الروائح المرتبطة بالراحة والألفة تُنشط مراكز الثقة في الدماغ.

الانطباع الأول لا يحدث في الحياة الواقعية فقط، على الإنترنت، أمامنا ثوانٍ محدودة لإقناع الزائر بالبقاء. شركة مثل (Stripe) تقدم درسًا بصريًا: واجهة نظيفة، شريط ترحيبي مباشر، وأيقونات واضحة. هذه البساطة الظاهرة هي نتيجة اختبارات عصبية وسلوكية لفهم كيف يتفاعل الزائر في لحظته الأولى. الهدف: تفعيل آلية القرار الإيجابي السريع في الدماغ دون مقاومة أو ارتباك.

حتى داخل قاعات الاجتماعات، خاصة حين يجتمع أشخاص من خلفيات متنوعة، فإن الانطباع الأول يتشكل من تفاصيل دقيقة: هل بدأت اللقاء بتحية تُظهر الاحترام؟ هل استخدمت أسماء الحاضرين؟ هل نبرة صوتك توحي بالثقة دون تكلف؟ هذه التفاصيل تُشغّل تلقائيًا خرائط ذهنية لدى المستمع، وقد تحدد ما إذا كان سيتم التعاون معك أو التوجس منك.

في الحياة الاجتماعية داخل بيئات العمل، يتضاعف تأثير اللحظة الأولى، الموظف الجديد الذي يختار لحظة التعارف بحكمة، أو المدير الذي يبدأ أول اجتماع بنبرة تشاركية بدلًا من سلطوية، يُؤسس لرواية غير مكتوبة عن شخصيته، قد تبقى طويلاً في الذاكرة المهنية. الانطباع هنا لا يُمحى بسهولة، لأن الدماغ البشري يبني عليه التوقعات التالية.

في عالم يتخذ فيه العقل قراراته خلال أجزاء من الثانية، فإن الشركات الذكية لا تترك الانطباع الأول للصدفة. كل مصافحة، كل بريد إلكتروني، كل تصميم مرئي هو رسالة صامتة تُخاطب اللاوعي قبل الوعي. ومن يُتقن هذه اللغة، لا يربح الثقة فقط، بل يبني ولاءً يصعب كسره.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد