لم يبلِّغنا التاريخ أن الطريق إلى السلام يمر عبر بوابات الموت وأن الاستقرار تحققه حروب الإبادة وأن الأمان يعيش في ظله المعتدون على أملاك وأراضي الغير، وأن التسامح نتاج للتجويع والحرمان من أبسط أدوات البقاء في الحياة، والتشريد وسيلة للقضاء على العنف والكراهية، والإفراط في استخدام القوة سبيل لنشر المحبة، وقتل الأطفال والنساء اقتلاع لشجرة الإرهاب من جذورها، وأن الحضارات تبنى على جثث البشر وتدمير منجزاتهم وسحق أحلامهم، ولكن للحاضر رأي آخر، رأي يخالف حقائق التاريخ وثوابت الإنسانية، فلكي يتحقق السلام اليوم لا بد أن تزدهر صناعة الموت وإبادة الآخر هي الوسيلة لخلق عالم مستقر متناغم بوجه واحد وعقل واحد والسبيل للعيش الآمن هو السطو على حقوق الآخرين وتهجيرهم من أرضهم والتجويع ليس سوى وسيلة للقضاء على غريزة إنسانية بهدف السمو بالضحية إلى درجة التسامح مع من يحرمونها من حق الغذاء والماء والدواء، ومقابر الجوعى والأطفال برهان حضاري. انقلبت المفاهيم وأصبحنا نتابع ما يحدث حولنا وما يُلقى على أسماعنا وكأننا نتابع فيلماً من الفانتازيا العبثية، تهبط فيه الديناصورات الفضائية على البشر للقضاء عليهم بدعوى تخليص الأرض من شرهم وتحويلها إلى جنة لا يسكنها سواهم، جنة على المقاس، تتحول فيها بقع الخراب والدمار إلى منتجعات سياحية للاسترخاء والاستجمام، بعد أن تضع الحروب أوزارها ليعم السلام بفضل القوة المفرطة والعنف الممنهج والإبادة المدروسة.. الحرب هي الأداة لتحقيق السلام، هذا ما يؤمن به ويروج له الرئيس دونالد ترامب وقبل استلامه مهامه الرئاسية في فترته الثانية بيومين قالها بوضوح وصراحة «سنواصل الترويج للسلام عبر القوة في المنطقة والبناء على زخْم وقف إطلاق النار لتوسيع اتفاقات السلام»، عند إعلانه عن هدنة سابقة لوقف إطلاق النار في غزة وخلال السبعة أشهر الماضية قالها ورددها أركان إدارته مراراً وتباهياً بالتناغم بينهما قالها ورددها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل مغادرته واشنطن الأسبوع الماضي في حديث على قناة «فوكس بيزنس»: «أنا وترامب نؤمن بمبدأ السلام بالقوة، القوة تأتي أولاً ثم السلام.. أظهرنا الكثير من القوة ويبدو لنا أن للسلام ثماراً كثيرة، وسنتمكن من خلق واقع في الشرق الأوسط لا يصدق، يحقق الرخاء والاستقرار». نهج جديد احتار في تفسيره المحللون والمختصون. كثيرون تساءلوا عن هوية السلام الذي يخرج من رحم الموت والإبادة وهل يمكن لهذا السلام أن يحقق الرخاء والاستقرار؟ لعلهما يقصدان به سلام الإذعان والخضوع. نعرف أن السلام اختيار لا فرض وأنه ليس مجرد اتفاقيات يتم توقيعها على ورق، ولكنه سلوك يفرض على أطرافه ليس فقط الالتزام به بل نشره وحمايته حتى يبقى ويصمد ويتحول إلى نهج حياة والسلام المختار هو الأبقى، أما السلام المفروض فإن أي عاصفة تهب عليه تقتلعه وتحوله إلى مجرد ذكرى. تبدلت المفاهيم وأصبحنا نرى العمل الإنساني وسيلة لاصطياد المحتاجين ونقلهم إجبارياً إلى العالم الآخر ونرى اليوم البارود وسيلة لإنهاء حياة الجوعى الحالمين بلقمة عيش وشربة ماء وحبة دواء. لا نحلم بسلام يصفح عن الإرهابيين الذين يشعلون الأزمات ويشردون الناس، فهؤلاء يستحقون جزاء أفعالهم ولكن نريد سلاماً للشعوب، سلاماً يحمي الناس من الإرهابيين والطامعين على حد سواء.العالم الذي نحلم به لا يستحق السلام القادم على طائرات القصف وصواريخ الإبادة ولكنه يستحق سلاماً يضمن تحقيق العدالة بين الدول، السلام الذي يعيد الحقوق المشروعة لأصحابها ويفرض على جميع أطرافه نبذ العنف ومحاربة الإرهاب بكل الوسائل الممكنة، يجمع ولا يفرق، يستهدف أمن وأمان الإنسان أياً كان دينه أو عرقه أو لونه أو جنسيته من دون تمييز، سلام توقعه الحكومات وتتبناه الشعوب، تؤمن به وتحميه، حتى يعم الأمن والأمان ويتحقق الاستقرار ويوجه الإنسان جهوده للبناء والتنمية والإنجاز. ما أبلغنا به التاريخ أن الكثير من الإمبراطوريات قامت بالقوة، احتلت دولاً، وتوسعت بإذلال وقهر شعوب ضعيفة، نهبت ثروات ونشرت الخوف وصنعت الفوضى وقتلت رموزاً ونفت قادة وحاولت وغيّرت ثقافات وخلخلت تركيبات سكانية وفرضت نفسها متوهمة أن بقاءها أبدي، ولكن إرادة المقهورين أجبرتها على الرحيل. في ذات الوقت، شهد التاريخ الإنساني حضارات قامت على البناء وزرع القيم والارتقاء بالإنسان وهي حضارات ستظل باقية في الوجدان الإنساني، تحولت بعض معالمها إلى مزارات سياحية، يقصدها الناس من مختلف قارات الدنيا تقديراً لعظمة صناعها وتخليداً لذكراهم واعترافاً بفضلهم المقدَّر عبر الأزمان. السلام عبر القوة يمكن أن يتحقق ويصبح واقعاً ولكنه سيكون سلاماً مفروضاً مؤقتاً، لن يدوم وسينهار بأسرع مما يتخيل الداعون إليه، سيكون سلام الحقد والغضب والكراهية، سلاماً يصنع الإرهاب ولا يقضي عليه، ينشر الخوف ولا يضع له نهاية، يخلخل الاستقرار ولا يكرسه، يعمم الفوضى ويشعل المزيد من الحروب والأزمات في عالم يئن من كثرة الحروب التي تهدد استقراره بل ووجوده.
سلام القوة
مواضيع ذات صلة