: آخر تحديث

من الفكرة إلى التنفيذ: ملامح مشروع وطني اقتصادي

7
6
4

عمر الطبطبائي

في المقال السابق، قلناها بوضوح: العزم الاقتصادي وحده لا يكفي، ويحتاج مشروعاً وطنياً جامعاً، واليوم نضع بين أيديكم ملامح هذا المشروع، كما نراه من داخل التجربة وبعين الإصلاح، لا من وراء المكاتب أو عبر تقارير مستوردة.

أولا: تعريف العقيدة الاقتصادية للدولة

قبل الحديث عن الضرائب أو الدعم أو المشروعات، يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا، هل نريد دولة تظل الراعي الأول لكل شيء؟، أم نتحوّل تدريجياً إلى دولة ممكنة تضع الإطار، وتفتح المجال، وتراقب بصرامة، لكنها لا تدير كل التفاصيل بيدها؟

فبين الدولة التي تهيمن على السوق، وتلك التي تهجره هناك دولة ثالثة، دولة تضبط السوق من دون أن تخنقه وتطلقه من دون أن تتركه، وهذا التوازن هو جوهر العقيدة الاقتصادية الحديثة، التي تقوم على «الحوكمة» لا «الإدارة المباشرة»، وعلى «تمكين المواطن» لا «إعالته الدائمة».

ثانيا: خلق هوية اقتصادية واضحة

لا يمكن لأي بلد أن ينهض دون أن يعرف أولوياته، ففي زمن تتسابق فيه العواصم على صناعة التفوق، لا مجال للتعميم ولا وقت للتردد.

هل نريد أن نكون مركزاً لوجستياً يربط الشرق بالغرب، كما كنا تاريخياً؟

هل لدينا الشجاعة لننافس عبر «الاقتصاد الرقمي»، في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والبيانات؟

هل نستثمر جزرنا المعطلة وموقعنا الجغرافي لنبني مناطق اقتصادية حقيقية، لا مجرد مجسمات؟

هل نعيد الاعتبار إلى «الصناعة الكويتية»؟ من الغذاء إلى التقنية، لا كفكرة شعارات بل كمحور إستراتيجي؟

الهوية الاقتصادية لا تعلن بل تبنى وتدار، وتُحمى من العبث السياسي والتقلبات الموسمية.

ثالثا: بيئة قانونية مرنة وعدالة اقتصادية صارمة

القوانين وحدها لا تكفي إن لم تكن مصممة لتسهيل الطريق لا تعطيله.

• فمنظومة التراخيص بحاجة إلى رقمنة شاملة بمدد واضحة، وربط مباشر بين الجهات حتى لا تظل فكرة المشروع رهينة مزاج موظف أو تأخر توقيع.

• مناقصات الدولة تحتاج إلى شفافية وقواعد حوكمة تمنع تكرار الكوارث التنموية، مشاريع تطرح دون دراسة، ترسى دون قدرة، وتنفذ دون محاسبة.

• العدالة الضريبية لا تعني تحميل المواطن البسيط ما لا يحتمل إنما تعني إلزام الكبار بما يوازي أرباحهم.

• الدعم لا يجب أن يكون شعبوياً بل عادلاً، يجب أن يصل لمَنْ يستحقه لا أن يستهلك في رفاه مَنْ لا يحتاج.

رابعا: خطة تشغيل وطني حقيقية

البطالة ليست رقماً فقط، إنها قنبلة مجتمعية مؤجلة، فكل شاب يشعر أن الدولة لا تحتاجه، سيتحوّل عبئاً بدل أن يكون رصيداً.

لذلك نحتاج إلى منصة وطنية لإعادة تدريب وتأهيل الطاقات، عبر اتفاقيات فعلية مع القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية، المشاريع الصغيرة والمتوسطة هي مستقبل أي اقتصاد، لكن الدعم ليس معرضاً صورياً، بل منظومة تبدأ من تخصيص أراض إلى تمويل واقعي، إلى تقليل تعقيدات التراخيص، الجامعات ليست وحدات لتخريج العاطلين، بل مراكز إنتاج فكري وسوق عمل، ويجب أن يُعاد النظر في التخصصات، وطريقة تقييم المخرجات، ومجالس الأمناء.

خامسا: تأسيس مجلس اقتصادي أعلى مستقل

لا تنجح أي خطة وطنية إن لم تتجاوز إيقاع الوزارات وخلافات المصالح، ولهذا نحتاج إلى مجلس اقتصادي أعلى مستقل، يضم خبرات وطنية لا تعين بالمجاملة بل تختار بالكفاءة والاختصاص، مجلس محمي سياسياً، مفوض بوضع السياسات الاقتصادية الكبرى ومراجعة الأداء وتقديم مؤشرات دورية عن مدى تحقيق الأهداف.

وليس المطلوب أن يكون «هيئة جديدة» تكرر الهيئات السابقة، بل أن يكون نقطة التقاء بين الرؤية والتنفيذ، بين القرار السياسي والعقل المهني، بين طموحات الدولة وخبرة أهل الاختصاص، فالإصلاح الاقتصادي لا يحتمل المجاملة ولا يدار بمنطق العلاقات بل بمنهج علمي وشخصيات تعرف ماذا تفعل ولماذا!

سادسا: إعلام اقتصادي يُعيد الثقة

الرؤية مهما كانت طموحة تحتاج إلى لغة إعلام يفهم أن المواطن ليس عدواً بل شريكاً في الفهم، لغة اقتصادية بسيطة تعرض الأرقام كما هي دون تزييف أو تجميل وتوضح التحديات دون ترويع، صراحة في المكاشفة وجرأة في الاعتراف واحتراف في التوجيه، فالثقة لا تشترى ولا تفرض إنما تكتسب.

المشروع الوطني ليس وثيقة حكومية، ولا خطة خمسية تكتب ثم تنسى، هو عقد بين الدولة والمواطن، عقد نعرف فيه دور كل طرف، ونحترم فيه الوقت، ونقيس فيه النجاح بما تحقق لا بما وعد به.

إن بناء مستقبل اقتصادي مستدام، لا يبدأ من الميزانية بل من القرار، والقرار لا يؤخذ داخل الغرف فقط، بل بصوت وطني يملك الشجاعة أن يقول: آن أوان التنفيذ فالأجيال لا تنتظر.

اللهم قد قلنا ما في ضميرنا فكن لنا شهيداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد