: آخر تحديث

هل يجعلنا الذكاء الاصطناعي أنشط وأذكى أم العكس؟

2
2
2

عبدالرحمن الحبيب

لا شك في المنافع الهائلة للذكاء الاصطناعي، إنما هناك من يؤكد أنها ستجعلنا أو جعلتنا أقل نشاطاً وأكثر كسلاً لأنها تقوم بعمليات كنا نقوم بها، والأسوأ أنها تقلل من نشاطنا الذهني وتقلل من ذكائنا بل وقد تجعل منا أغبياء!

لكن هناك قلة يرون العكس بأن الذكاء الاصطناعي يتيح لنا مجالات جديدة ويوسع مداركنا ويحفز نشاطنا الذهني..

وبين هذا وذاك ثمة من يرى أن ذلك يعتمد على طريقة الاستخدام والتعامل مع الذكاء الاصطناعي؛ فماذا تقول الدراسات المتخصصة في هذا المجال؟

من أهم الدراسات حول تأثير الذكاء الاصطناعي على القدرات الذهنية البشرية ما قامت به مؤخراً شركة مايكروسوفت بالمشاركة مع جامعة كارنيغي ميلون (فبراير، 2025)، التي شملت 319 شخصاً يستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبعد تحليل 900 مثال من الحياة الواقعية، وجدت أن الذين يثقون بالذكاء الاصطناعي يميلون أقل للتفكير النقدي، بينما أولئك الذين يشكون بالذكاء الاصطناعي ينخرطون أكثر في تقييم وتحسين منتجات هذا الذكاء.

كما وجد الباحثون أن استخدام الذكاء الاصطناعي يقود إلى تنوع أقل من النتائج لنفس المهمة، مما يؤدي إلى أن العاملين الذين يثقون بالذكاء الاصطناعي قد ينتجون استجابات أقل في أصالة العمل والإبداع.

كذلك وجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يثقون بالذكاء الاصطناعي يقومون بجهد أقل في التحقق من النتائج، بينما أولئك الذين يثقون بمهاراتهم لديهم مستوى نقدي أعلى تجاه نتائج الذكاء الاصطناعي.

تقدم الدراسة مقترحاً للطريقة المناسبة لاستخدام الذكاء الصناعي، موضحة أنه بينما يقدم هذا الذكاء منافع ضخمة في الكفاءة والإنتاجية، إلا أنه يمكنه أيضاً خفض التفكير النقدي إذا كان المستخدم يفرط في الاعتماد على هذا الذكاء؛ والمسألة الأساسية هنا هي أن يتم التعامل مع الذكاء الاصطناعي كشريك في التطور المعرفي بدلاً من أن يحل محل الذكاء البشري.

من خلال تعزيز ثقافة الشك الموضوعي، ودعم التفكير النقدي، وتصميم نُظم ذكاء اصطناعي تشجع على المشاركة البشرية، يمكننا تسخير قوة هذا الذكاء دون التضحية بقدرتنا على التفكير المستقل؛ فمستقبل الذكاء الاصطناعي ينبغي ألا يدور حول الاستغناء عن الحاجة للإنسان بل على تعزيز القدرات الذهنية لحل المشاكل المعقدة، حسبما خلصت به الدراسة.

في السياق ذاته، يقترح بروفيسور دراسة الأعمال بجامعة بنسلفانيا إيثان موليك في كتابه «الذكاء المشترك: العيش والعمل مع الذكاء الاصطناعي» أنه لتجنب ما ينتج من أخطاء فادحة بسبب سوء التعامل والاستخدام من البشر تجاه أجهزة الذكاء الاصطناعي، ينبغي أن نتفاعل معها كزملاء عمل ومعلمين ومدربين، أي كبشر مثلنا؛ كما أنه يعيد مراراً وتكراراً أنه رغم أن الذكاء الاصطناعي ليس بشراً وليس واعياً بل جهاز آلي جامد، ولكنه يقول أيضًا إنك ستُحسن استخدامه إذا عاملته كما لو كان بشرًا، مستخدمًا الأمثلة المباشرة للذكاء الاصطناعي في العمل وفوائد التفكير والعمل معًا مع هذه الآلات الذكية، وضرورة إتقان هذه المهارة دون فقدان هويتنا البشرية، والتعلم منه دون تضليل مصطنع.

دراسة أخرى أجراها البروفيسور مايكل جيرلش، مدير معهد الاستشراف الاستراتيجي والاستدامة المؤسسية في كلية الأعمال السويسرية (SBS)، على 666 شخصًا، أظهرت وجود صلة بين الاستخدام المستمر للذكاء الاصطناعي التوليدي وتراجع مهارات التفكير النقدي؛ وقد وضح جيرلش أن بحثه أظهر أن أدوات الذكاء الاصطناعي «تشجع على تفريغ القدرات المعرفية، أو بعبارة أخرى، الاستعانة بالآلات للتفكير نيابة عنا..

هذا ليس سلبيًا بطبيعته، ولكن إذا اعتدنا عليه، فقد يُضعف قدرتنا على التفكير المنطقي المُعقد، وحل المشكلات، والتفكير النقدي».

التخوف من التأثير على أدمغتنا بتقليص قدراتنا الذهنية والإدراكية بلغ حداً أن موقع جامعة أكسفورد اختار كلمة «تعفن الدماغ» (brain rot)» لوصف عام 2024، نتيجة الإفراط في استهلاك المواد خاصة المحتوى عبر الإنترنت التي تعتبر تافهة أو غير محفزة للتحدي الذهني، رغم أن الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو في كتابه «والدن» قبل 170 عاماً كان أول من سجل استخدام مصطلح «تعفن الدماغ»، الذي يروي تجاربه في العيش بأسلوب حياة بسيط في العالم الطبيعي.

وكجزء من استنتاجاته، ينتقد ثورو ميل المجتمع إلى التقليل من قيمة الأفكار المعقدة، أو تلك التي يمكن تفسيرها بطرق متعددة، لصالح الأفكار البسيطة السطحية، ويرى في هذا مؤشراً على تراجع عام في الجهد العقلي والفكري، يقول ساخراً: «بينما تسعى إنجلترا إلى علاج تعفن البطاطس، فهل لن تسعى أي محاولة لعلاج تعفن الدماغ، الذي ينتشر على نطاق أوسع وأكثر فتكًا؟»

المحصلة هي ضرورة التوزان بين الاعتماد والمشاركة مع الذكاء الاصطناعي، ومن هنا تُبشِّر عرابة الذكاء الاصطناعي البروفيسورة فاي فاي لي بأن مستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي سيكون ثورة يصعب تخيلها، لكنها تؤكد أن أي تحقيق لذلك في المستقبل لن يكون سهلاً، إذ سيتطلب منا جميعًا اتخاذ خطوات مدروسة لتطوير التقنيات التي تضع البشر دائمًا في المركز، ولكن إذا نجحنا في ذلك، فلن تكون أجهزة الكمبيوتر والروبوتات ذات الذكاء المكاني أدوات مفيدة فحسب، بل ستكون رفاقًا موثوقًا بهم، مما يعزز إنتاجيتنا وإنسانيتنا، مع احترام كرامتنا الفردية وتعزيز ازدهارنا الجماعي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد