ناهد الأغا
أميرَ القوافي قد أتيتُ مبـايعًا
وهذي وفود الشرقِ قد بايعت معي
كان هذا البيت أحد أبيات عينيته الرائعة التي قد قالها شاعر النيل «حافظ إبراهيم» بحق أحمد شوقي، وإن دلت على شيء فإنما تدل على استحقاقه صكاً واضحاً في المبايعة الخالصة لإمارة الشعر، وأن لقب أمير الشعراء ناله بجدارة وبأدب لا يجارى؛ فهو يعد بشهادة الأدباء والنقاد أعظم شعراء العربية في العصر الحديث.
أحمد شوقي تلك الشخصية الفذة وأشهر من نار على علم، كان رائداً في الشعر والحوار القصصي والمسرحيات الشعرية؛ كل ذلك صبه بإتقان رفيع المستوى كنهر غزير يروي ظمأ كل من يرد إليه متشوقاً ليعب بنهم من غزارة إنتاجه.
ولد أحمد شوقي في القاهرة لخريف عام 1868 في 16 أكتوبر.. تربى في كنف جدته، حيث كانت الأخيرة تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعندما أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي التحق بمدرسة الحقوق؛ ومن ثم استكمل دراسته العليا في فرنسا وعمل بمعية زملائه بتكوين «جمعية التقدم المصري».
ولكون أحمد شوقي يتقدم الصفوف الأولى من بين الشعراء مجددي الشعر العربي فهو من جهة الشاعر الأول للشعر العربي المسرحي؛ ومن جهة ثانية بروزه في الشعر الديني والوطني؛ لذا تمت مبايعته عام 1927 «أميراً للشعراء».
في صغره حفظ القرآن الكريم وأجاد مبادئ القراءة والكتابة بكل إتقان.. وأثناء دراسته الثانوية عكف على دراسة دواوين الشعر العربي لفحول الشعراء وحفظ أغلبها عن ظهر قلب مما جعل قريحته تتفجر بياناً وعذوبة. نُفي إلى إسبانيا عام 1914 كونه كان معارضاً للاحتلال الإنجليزي، ولاشك أن فتره نفيه قد أثرت تجربته الشعرية؛ ويعزى ذلك إلى اطلاعه ودراسته للحضارة الأندلسية فنظم العديد من القصائد إعجاباً بها وفخراً.. ولعل أشهر قصائده من منفاه حول حضارة الأندلس كانت نونيته المعروفة تحت عنوان «أندلسية»، حيث عارض بنظمها نونية ابن زيدون الشهيرة «أضحى التنائي» وقد قال فيها:
يا نائِحَ الطَلحِ أَشباهٌ عَوادينا
نَشجى لِواديكَ أَم نَأسى لِوادينا
آهالَنا نازِحي أَيكٍ بِأَندَلُسٍ
وَإِن حَلَلنا رَفيقاً مِن رَوابينا
لذا يشيد غالبية النقاد والأدباء بموهبة أحمد شوقي الفذة المنبثقة عن خيال خصب وعاطفة جياشة، وبأياديه البيضاء التي عملت بسعي منقطع النظير على إحياء الشعر العربي وبصمته المشرقة للنهوض به والحفاظ على مكانته الرفيعة بين مراتب الأدب العالمي ككل.. كما يعزى السبب الرئيس في مبايعة الشعراء لأحمد شوقي «أميراً للشعراء» عام 1927 كونه له الفضل الكبير على الأدب وإثرائه فهو يعتبر أكثر الشعراء بإنتاجه الشعري الخصب، حيث نظم ما يزيد على 23,500 بيت من الشعر. وكان أبرز دواوينه ديوان «الشوقيات» ومن قصائده المشهورة «نهج البردة» و»سلوا قلبي».. أما بالنسبة للمسرحيات الشعرية فقد كان أبرزها : «مصرع كليوباترا» و»مجنون ليلى» و»عنترة» وغيرها الكثير.. وعن رواياته فقد كتب عدة روايات رائعة كان أبرزها : «الفرعون الأخير» و»عذراء الهند».
وفي حديثنا عن النثر الذي أنتجه شوقي وقد اتبع فيه أسلوب المقامات الأدبية المدهشة، فقد ألف كتاب «أسواق الذهب» حيث يجسد فيه هذا الأسلوب المشوق من الأدب أروع تجسيد. من أجمل ما قال أحمد شوقي:
وَكُن في الطَريقِ عَفيفَ الخُطا
شَريفَ السَماعِ كَريمَ النَظَر
وفي قصيدة أخرى قال أيضاً:
صَلاحُ أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ
فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على استنهاضه للخصال الكريمة وسمو الأخلاق وعفتها والوفاء والإخلاص وما يتماهى مع طيب القول والفضائل الرفيعة. ويحلِّق شوقي عالياً وبفيض يقطر عذوبة وقريحة يفوح شذاها بياناً ساحراً في قصيدة «سلوا قلبي» التي غنتها كوكب الشرق ولحنها العملاق رياض السنباطي فيقول:
وكنت إذا سألتُ القلب يوماً
تولَّى الدمع عن قلبي الجوابا
يذهب النقاد بعيداً في وصف تجربة أحمد شوقي الشعرية بقولهم: «بدأ الشعر بأحمد وانتهى بأحمد». وعلى النقيض من هذا القول يرى آخرون أن هذا كلام فيه من المبالغة الشيء الكثير؛ كون الأمة العربية منذ فجر التاريخ ولادة لفحول الشعراء. ومهما يكن من أمر يظل شوقي الشاعر الذي ندين له بالفضل بإحداث المدارس الشعرية المتجددة التي قدمت أجمل وأثرى القيم بالشكل والمضمون، حيث كساها أمير الشعراء حلة بهية باذخة يقبل عليها جيل بعد جيل بشغف منقطع النظير لذاك القادم من ضفاف النيل ممتطياً صهوة القوافي المدهشة علواً وسمواً.. بياناً وسحراً.