: آخر تحديث

امرأة معلقة من ثدييها وبنت من قرنيها!

3
3
3

نجيب يماني

وصلني مقطع خنفشاري يقول فيه صاحبه أمام جمع من اليُفّع والشباب إن المستقبل الحقيقي للإنسان يوم أن تتزاحم مع المؤمنين وأبناؤك بين يديك على باب جنات النعيم، يوم أن تودّع جسر جهنم خلف ظهرك الحسرات يوم تناظر إذ المرأة معلقة بثدييها وبنتك بقرنيها يقصد من شعرها والابن يُهوى به ٧٠ خريفاً في النار وما وصل من الأسرة إلا واحد أو اثنان للجنة.

ما أورده هذا الداعي يدحضه القرآن الكريم بوصفه لهذا اليوم يقول تعالى {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}، وقوله {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} وليس عوائل ومجموعات كما يدعي صاحب المقطع، وقوله {يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت} من هول ما ترى في هذا اليوم العظيم، علماً يا شيخ أن الله وصف هذا اليوم بقوله {يوم تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} وليست مزاحمة وفوضى على أبواب الجنة، أحوال الآخرة من الأمور الغيبية يعلمها الله وحده ولا تعمل معها أحاديث الآحاد.

ويضيف من الحسرات أن نربي أبناءنا على أن الدنيا هي السعادة، دراسة زوجة ووظيفة وبعدين مقبرة ويقسم بالله أنه مستقبل ضائع هذا،

مُنكراً على كل من يبنى بيوتاً ينتفع بها بيعاً وتجارة، ويطلب المزيد، نسي أن بلال بن الحارث المزني أتى رسول الله يستقطع منه أرضاً فأقطعها له طويلة عريضة، ولم يرده أو يمنعه ولو كان حراماً لما فعلها، والسعادة حقيقة في العلم وطلبه وليس من الحسرات كما ادعى، بل إن فضل العالم على العابد كفضل النبي محمد على أدناكم رجلاً ولا يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل.

ويسترسل بأن الحسرات كل الحسرات زوجة تخدم زوجها لإرضائه ووالد يربي أبناءه لإرضائهم مقطع مليء بكره الدنيا واحتقارها وكل ما يمت إليها بصلة، ذكرني بصحوة شريرة كِرهت الحياة ونشرت فكرها الضال حتى قيّض الله من استأصل شأفتها وقضى على سدنتها.

مقطع يدل على مدى ما يعانيه أمثال هذا الداعية من صورة الانكفاء والانغلاق وعدم استيعاب حقيقة الرسالة المحمدية الخاتمة والمعنيُّ بها العالم كله، لذا وجب على من يتولى الترويج لها، والمتصدّر لحمل رسالتها مستوعباً لمقتضيات هذه العالمية، ومدركاً لحتمية الاختلاف في الثقافات والأفكار أن الأحكام الشرعية شرعت لتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم وهي «رحمة للناس» ليس في جوهرها ما يصادم روح هذا الاختلاف، أو يتضاد مع مكوناته، وإنما ينشأ هذا التضاد وتبرز هذه الروح الصدامية حين لا نفهم معنى هذا الدين وجوهره، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه حث الإنسان على العمل والسعي في مناكب الأرض، يقول نبي الرحمة إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل. وورد في الأثر اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويعقب الشيخ بن باز رحمه الله

«ما هو بيقول باخلي عيالي وما أنا بمتجّر أخاف أموت باكراً! لا، اتَّجِر وأعمل ولا تقل أموت باكراً، بس استعد للآخرة كأنك تموت باكراً، واعمل للدنيا كأنك تعيش سنتين أو مائة سنة».

وهذا يحتاج خطاباً معتدلاً يؤكده، وروحاً تستوعبه، ووعياً يدرك معانيه.

إن مساحة الإباحة أرحب بكثير جداً من محددات المنع والتحريم، وإنه دين خير ومنفعة وحياة وعمارة للأرض يقول تعالى {وسخر لكم ما في السموات ومافي الأرض جميعاً منه} فالله يحب أن يُرَى أثرُ نعمته على عبده كما ورد في الحديث فالإسلام يبيح للمسلم التوسع في مطالب الحياة والتنعم بنعمها وطيباتها {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}، وإن الحرية في مسالكه ودروبه أكبر بكثير مما يحاول البعض حجره وتضييقه بليِّ أعناق النصوص، وحشرها في مضايق أفهامه القاصرة، وحمل الناس عليها بوصفها هي «الدين» وهو ما يحتّم عليهم مراجعة فقهية لتفهّم النصوص، بما يتناسب وروح الإسلام ومفهومه، فطلب العلم فريضة والزواج سنّة والوظيفة والعمل مطلب فقد طلب سيدنا يوسف من عزيز مصر أن يجعله على خزائن الأرض.

وتربية الأبناء واجب والموت يقين والمقبرة رحمة وما كلامك هذا إلا رهبانية نهى عنها نبي الأمة وقال إن الرهبانية لم تكتب علينا، والحال نفسه في المأكل والمشرب والمسكن، فحرم الربا وأحل البيع والتجارة، بما يحقق الغاية من إعمار الأرض وصلاح حياة الناس {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} فليس من المقبول منطقاً وشرعاً أن يحكم الناس أعمالهم وحراكهم وفق مخرجات فهوم وعقول قاصرة مغلقة.

الإسلام فقه القلب والحياة وحث النفس على العمل في صراط الفطرة.

فلم يعد مكان بيننا لمثل هذا الفهم القاصر والمحبط مع متغيرات العصر، ومتطلباته. مقطع بعيد عن الواقع وروح الإسلام وعمارة الكون وإنما حب في الشهرة والظهور.. وشوفوني لا تنسوني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد