نواصل الحديث عن الكشف الأثري المهم الذي تم الإعلان عنه في الأقصر شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. كان أول ما عثرنا عليه في موقع الحفائر هو جبانة ضخمة مقسمة إلى مقابر عائلية مبنية من الطوب اللبن، وتعود إلى العصر البطلمي (331 قبل الميلاد حتى 31 ميلادي). وكان أول ما قامت به البعثة هو تسجيل طُرز المقابر المُكتشفة التي تعود إلى بداية العصر البطلمي، وذلك وفق اللقى الأثرية التي عثرنا عليها، ومن أهمها عملات من البرونز من عصر بطلميوس الأول، أول حكام البطالمة، التي تحمل صورة الإسكندر الأكبر. والغريب أن أصحاب هذه المقابر قاموا بإعادة استخدام أحجار معبد الوادي للملكة حتشبسوت، وكذلك أحجار الطريق الصاعد، داخل مقابرهم بوصفها عناصر معمارية، أعتاباً أو قواعد أعمدة أو حتى في إعادة نقشها، وعمل ما يُعرف باللوحات الجنائزية. لقد تم الكشف عن تابوت مبني من أكثر من 18 كتلة حجرية من الحجر الرملي، وبمجرد الكشف عن التابوت اتضح أن أحجاره أُخذت من مقصورة أقدم تعود إلى الأسرة الـ«21»، وتحمل نقوشاً تُمثل مناظر تقديم قرابين، وكذلك مناظر لبعض ما يُعرف بالزوجات الإلهيات لآمون سيد الكرنك.
ولم يتوقف أصحاب الجبانة البطلمية على إعادة استخدام الأحجار فقط، بل قاموا كذلك بإعادة استخدام كثير من قوالب الطوب اللبن التي أخذت من مبانٍ لحتشبسوت وأمنحتب الأول وأمنحتب الثاني.
أما عن هؤلاء الذين دفنوا بالجبانة فهم بالطبع مصريون عاشوا تحت حكم البطالمة. كانت عادات الدفن واستخدام الكتان في تكفين الأجساد ووضع أقنعة من الكارتوناج الملون وكذلك استخدام التوابيت الخشبية بالهيئة الإنسانية في دفن الموتى. هذه التوابيت تحمل مواضيع المناظر الجنائزية نفسها التي عثر عليها على توابيت العصر الفرعوني.
ومن بين أكثر من ألف قطعة أثرية عُثر عليها في مقابر العصر البطلمي لم يعثر سوى على رأس صغير لسيدة بباروكة شعر وطراز يوناني صرف، ولا بد أنها لتمثال صغير لسيدة أو إلاهة من آلهة اليونان، والمؤكد أن هذا التمثال ليس محلي الصنع، بل صنعه فنان يوناني ربما في الإسكندرية أو في اليونان، وجاء إلى مصر مع البضائع التي كانت تصل عبر السفن من أقطار العالم اليوناني إلى ميناء الإسكندرية، أكبر مواني البحر الأبيض المتوسط في العالم القديم. وكان من ضمن أهم الآثار التي عثر عليها في الجبانة البطلمية هي تلك التماثيل الصغيرة من الطمي المحروق (تراكوتا) وتعرف هذه التماثيل بلعب الأطفال! حيث تُمثل أشكالاً من الحيوانات، ومنها الجمال والخيل والحمير، وكذلك الطيور كالحمام والديكة، ويبدو أن عادات دفن الأطفال في العصر البطلمي كانت تستلزم وضع كثير من اللعب داخل مقابرهم. والى جانب ذلك تم العثور على كثير من العقود المصنوعة من الفيانس، وكذلك التمائم وتماثيل الشوابتي والجعارين المجنحة. وعلى الرغم من أن كل ما تم العثور عليه داخل الجبانة مصري خالص فإن التأثيرات اليونانية كانت موجودة أيضاً، وتتمثل في ما تم العثور عليه من تماثيل تُعرف بالتماثيل الجنسية الشهيرة في العصر البطلمي.
ولا تزال أعمال الحفائر بالموقع قائمة، ويقوم بها فريق من شباب الأثريين تحت رئاستي، ويقود الفريق الدكتور طارق العوضي مساعدي الأثري ومعه الأستاذ مصطفى الحكش والأستاذ عبد الغني الصعيدي؛ (أثريان)، والأستاذة أنهار حسان التي تقوم بأعمال الرسم الأثري والتوثيق.