حين قابلتُ الفيلسوف الراحل مطاع صفدي في منتدى بدبي، كان بحثه بعنوان: «بحثاً عن براءة الصيرورة» للتوّ قد نشر في مجلته «الفكر العربي المعاصر»، وكنتُ قد قرأته وأردت النقاش معه.
وصار عنوان المجلة كلها «بحثاً عن براءة الصيرورة». وكان هذا آخر لقاء معه قبل رحيله. تحدثتُ تحديداً عن هذا البحث المهم والمفهوم العتيد. لقد كان في منتصف الثمانين من عمره ولكنه كان يقظاً، قال حين نريد أن نعرف فعلياً مفهوم الزمان فلا بد أن نقرأ الفيلسوف مارتن هيدغر، وما كان معجباً بأطروحة الفيلسوف عبد الرحمن بدوي حول الزمان لأنها مُغرقة في الوجودية الصلفة النزقة، لأن صفدي فسّر هيدغر ونظريته الزمانية ضمن موجة ما بعد الحداثة.
لم تكن القصّة تتعلق بفكرة هيدغر الفلسفية، وإنما تجاوزتها نحو المعاني السياسية والواقعية والعملية، فمفهوم الزمان عند هيدغر صائر، على عكس الفيلسوف هيغل قبله، حيث بوَّبها ضمن احتمالات المعاودة أو التجادل (الديالكتيك) الذي دمّره كارل ماركس في نظريته (القلب الديالكتيكي) والتي نقض بها حيرة هيغل. والفضل يعود لانغماسه بفلسفة فيورباخ الألماني. لقد كان ساحقاً للمعنى الهيغيلي بموضوع الجدلية الذي لم يثمر كثيراً، وإنما أسَّس لصروح فلسفية جديدة وعتيدة، وكتب عنه ماركس ملاحظة فلسفية مهمة عام 1845 بعنوان: «الآيديولوجية الألمانية».
إن صيرورة الزمان لها امتدادها منذ هيراقليطس في المئة الخامسة قبل الميلاد حين نظّر للصيرورة والنار، وقال عبارته الشهيرة التي أثّرت كثيراً في الفلاسفة من بعده كلهم ومنهم نيتشه حين قال: «الماء لا يجري في النهر مرتين». فالعالم يصير ولا يعود أبداً، والتاريخ لا يعيد نفسه كما يقال، وإنما الأفراد يكررون أخطاءهم. هذه ببساطة نظرية الصيرورة الزمانية؛ فكل ثانيةٍ تتبعها حمولة من المسؤوليات التي يجب على الإنسان أن يواكبها ضمن وجوده بل على المؤسسات والدول إدراك معنى الصيرورة.
إن نظرية ماركس «القلب الهيغيلي» لم تنجح لسببٍ بسيط هو أن نظريته تعتمد على أن التاريخ يتحرّك ضمن معركة دائمة، وثوريّة فائقةٍ بين مشروعين بُغية إنتاج نموذج ثالث أفضل، وهذا ما أثبتت الثورات والوقائع أنها نظريةٌ فاشلة، بدليل ما نشهده في الإقليم منذ عقود وإلى اليوم من دول مجاورة فاشلة.
إن المعنى الأساسي الذي طرحه هيدغر تطويراً لمن سبقه حول الصيرورة يقول لنا إن لكل حدثٍ نتيجةٍ، إما جيدةٌ وإما سيئة، وهذا ما طوّره جاك دريدا في مفهومه عن «الحدث والصورة» في كتابه بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول).
إن الفكرة الأصليّة بمفهوم الصيرورة لدى هيدغر تعتمد على الزمانية في إبصار الأمور. حتى الحركة السياسية، أو الكارثية، والحربية، لا تقاس بالحدث فقط، وإنما بالزمان، ولكن لماذا هذا التنظير الحاسم الذي قلته؟ إنني أُسبّب عليه بالآتي:
أولاً- إن التطوّر مفهوم مختلف عن الصيرورة، فالتطوّر هو ملك يدك تستطيع أن تقوم به في التفسير العلمي الطبيعي، أو القانوني، فهو انتقالٌ من طورٍ إلى آخر، فيما الصيرورة هي التي تملكك وتتحكم بمصيرك، هنا الفرق الهائل بين المفهومين.
التطوّر هو الخروج من طورٍ إلى آخَر ضمن أفكارٍ بشريةٍ محضة تُعنى بأسلوب الإدارة، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو التبويب الاجتماعي العام، فيما الصيرورة طوفانٌ دائم. نحن في كل جزءٍ من الثانية في صيرورة دائمة، وهي ليست من صنع البشر وإنما هي جزء من الكينونة الوجودية.
ثانياً- إن التاريخ كله يطرح لنا نتائج، وهي خلاصة تجارب للبشر منذ حروب إسبرطة في اليونان التي تُعرف بالحرب الكورنثية في القرن الرابع قبل الميلاد، وصولاً إلى الحروب الأهلية في الشرق والغرب؛ وعليه فإن الخلاصات التاريخية لا يمكن أن تُنسب إلى موضوع التطوّر وإنما إلى مفهوم الصيرورة والزمان.
الخلاصة؛ أن هذه النظريات الكلّية وأبرزها مفهوم الصيرورة يجب أن تكون محلّ انتباه، لأن التاريخ ليس ملك الإنسان، بل الإنسان ملكٌ للصيرورة، فهي أساس الحدث، ومَن يغامر في الإقليم أو يقامر بالشعوب سوف يلاحقه هذا المفهوم. إننا أمام تحدياتٍ كبرى في الأفكار التي تُطرح. ببساطة لقد فشلت نظرية «القلب الهيغيلي» لكارل ماركس، ونجحت نظرية «الصيرورة» لمارتن هيدغر، والعاقل خصيم نفسه، ولله في خلقه شؤون.