عبدالعزيز المقالح
الكتابة بمعناها الإبداعي الحر مشروع ممارسة علنية للحرية، ووسيلة من وسائل الاتصال المفتوح بالناس والأشياء. وتكاد بالنسبة لي تكون ضرباً من التنفس الذي تشتد الحاجة إليه كلما ازداد الإحساس بالاختناق، وصرت كلما شعرت بالواقع المرعب يلف حباله حول عنقي أذهب إلى الكتابة فأشعر معها أنني استرجعت حريتي، ولو على سطح الورق، عندما أكتب ما أشاء وألعن بالكلمة كل الظلام وكل أسباب الاختناق التي تحاصر الناس في بلادي، وفي الوطن العربي، وفي شتى أصقاع المعمورة التي أصبحت صغيرة ومتداخلة كأنها مدينة واحدة متعددة الشوارع والأحياء. ولا أستطيع العثور على وصف مناسب لشعور الانتشاء بالحرية لحظة الكتابة، لحظة التمتع بمناقشة الحياة وفهم منطق الأشياء بعيدًا عن كل رقابة، وكيف يستطيع الكاتب- وهو يتعامل مع لغته- أن يكون الضمير الموقوت في التعبير عن شوقه وشوق البشرية إلى إيجاد سلطة إبداعية موازية للسلطات الحاكمة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، نصيرة للحرية أو معادية لها. ومن الاستقراء الدائم للتجربة السياسية العربية بكل أشكالها، فإن السلطة في مراحل غياب المجتمع المدني لا تستطيع إلا أن تكون أداة قمع واستلاب، وهو ما يضاعف من مسؤولية الكلمة ويجعلها تغوص، أكثر وأكثر، في روح الإنسان، لتتمكن من التعبير عن عذابه وعن شعوره المرير بالانسحاق والتحول إلى رقم في القطيع. ولعل الفارق الوحيد والمهم بين الكاتب المبدع وغيره من البشر أنه يستطيع أن يكون حرًا في التعبير عن نفسه وعن الآخرين، وأنه يستطيع كذلك أن يلتقط صور الخوف من خلال أحاديث الناس ومن تعبيرات وجوههم تجاه غياب الحرية. وهناك- لا شك- من يكتبون ليكونوا عبيدًا أو لكي يجعلوا الآخرين عبيدًا، وهؤلاء لا يمارسون الكتابة بمعناها الإبداعي الحر، وإنما يمارسونها بوصفها صيغة لغوية تقود إلى المال أو إلى الجاه. وكان الناس في بداية العصر الحديث يحلمون بموت هذا النوع من الكتابة، ويأملون أن يتوقف امتهان الكلمة بشكل نهائي، إلا أن أجهزة الإعلام المنتشرة أعادت لهذا النوع القبيح من الكتابة الحياة، وجعلت ظاهرة التسول والتكسب بالكتابة ممكنة ومطلوبة، رغم أنف الحرية التي يتحدث عنها العالم وتمارس بشكل جيد في بعض شعوبه. ولعل أغرب ما في واقع الوطن العربي أن الأمر مستقبلًا بالنسبة للمبدع وللحرية، سيكون صعبًا بصورة تفوق ما كان موجودًا في عصور محاكم التفتيش، وذلك ليس بسبب تزايد المد الأصولي، وإنما لانعدام الحاجة إلى الإبداع وفقدان الحرص عليه. الناس يبحثون عن الرغيف لا عن القصيدة، عن قطعة اللحم لا عن الكتابة. وإذا كان انتشار الصحف والمجلات التي تتعقب الأدباء بالسياط، وهي مجلات يكتب فيها من لا علاقة لهم بالأدب ولا بالكتابة، إذا كان ذلك في حد ذاته كارثة، فإن الكارثة الأكبر أن الأدباء لا قرار لهم ولا قاعدة تدافع عن وجودهم، وخصوصاً بعد أن تناثر حطام الآمال التحديثية وضاع معنى الحرية أوكاد. منذ بدأت الكتابة في سن مبكرة جدًا حتى هذه اللحظة، ونتيجة لظروف التخلف منقطع النظير، الذي شهده اليمن ولا يزال يشهد آثاره ومخلفاته حتى الآن، وأنا ومعظم زملائي من الشعراء - والشعراء الطامحين للتحديث خصوصاً، نعيش سلسلة من التصادم الحاد والمحاكمات الدينية والسياسية والفنية. وبالنسبة لي إذا نحيت جانبًا تلك المحاكمات التي تتصدى للقصائد الرافضة لأساليب القمع أو لأساليب الاستعداء للأعداء، ونحيت جانبًا- أيضًا- تلك المحاكمات الفنية البائسة التي تعاني من حساسية مفرطة تجاه الجديد الشعري، وترى في الخروج على نظام البيتية عملًا تخريبيًا مأجورًا... إلخ. أقول إذا نحيت تلك المحاكمات جانبًا - رغم ما سببته لي من آلام وإساءات وتشويه- فإنني لا أستطيع أن أتجنب الإشارة إلى المحاكمات الدينية التي بدأت معي منذ عام 1978، وهو عام صدور ديواني الشعري السادس (الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل). لقد كان هذا الديوان، ابتداء من عنوانه وإلى آخر سطر في قصائده، بمثابة الجريمة التي لا يطهرها سوى الدم، دم الشاعر حتى لو حاول الاعتذار عن جريمة لم يرتكبها وعن كفر لم يحدث به نفسه. لقد تعرضت لأقسى حملة دينية احتشدت لها أطراف لا علاقة لها بالله ولا بالدين ولا بالشعر ولا بالأدب، وكانت الزندقة والعيب في الذات الإلهية أقل التهم الموجهة. وعندما أتذكر الآن ضجيج تلك الأصوات وما استخدمته من ألفاظ هذا القاموس الطويل الذي تجنده مؤسسة التكفير وتشهره في وجه الفنون والآداب، أشعر بمدى الإفلاس الذي تعاني منه تلك المؤسسة التي لا تعرف شيئًا ولا تخرج صلتها بالشعر عن قراءة بعض المتون المنظومة. وأشعر كذلك بالأسى تجاه هؤلاء البائسين الذين ينصبون أنفسهم وكلاء عن الله! 1990* * شاعر وأكاديمي يمني «1937 - 2022».الناس يبحثون عن الرغيف لا عن القصيدة
مواضيع ذات صلة