: آخر تحديث

قطرة واحدة للتَّعرف على مذاق البحر

5
5
3

لا يحتاج المرء إلى أن يشرب ماء البحر كله ليتعرف على مذاق الماء بين شاطئيه، وإنما تكفيه قطرة واحدة لتؤدي الغرض وتقوم بالمهمة.

وهذا ما سوف تتبينه وأنت تتابع ما يصدر من إشارات عن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب منذ أن أدى اليمين الدستورية، فالإشارات التي يحملها كلامه ليست كثيرة وفقط، ولكنها بالقدر نفسه مُربكة لأنها تحمل الشيء وعكسه.

وإذا أخذنا الأمر بمنطق القطرة الواحدة من ماء البحر، فسوف يكون حديث السفير الأميركي مايك هاكابي هو هذه القطرة، وسوف تكون البقية في كلام ترمب هي ماء البحر كله، وسوف تجد تناقضاً ظاهراً بين ما يخرج عن السفير هاكابي من كلام، وما ينخرط فيه الرئيس الجديد من أوامر يضع عليها توقيعه، أو تصريحات يُطلقها وهو لا يبالي.

إن هاكابي هو مرشح الإدارة الجديدة سفيراً في تل أبيب، ومن كلامه الذي نقلته عنه هيئة البث الإسرائيلية فلن يختلف في شيء عن ديڤيد فريدمان، الذي شغل المنصب نفسه ولكن في إدارة ترمب الأولى، فكلاهما متطرف في آرائه إلى أبعد حد، وكلاهما متشدد في انحيازه إلى الإسرائيليين كأشد ما يكون الانحياز، والذين يذكرون ما كان فريدمان يقوله في الفترة من 2016 إلى 2020، لن يجدوا اختلافاً بينه وبين ما سوف يجدونه على لسان هاكابي من هنا إلى سنوات أربع مقبلة.

السفير الجديد لا يجد أي حرج في أن يقول إنه ضد حل الدولتين بشكل قطعي، وهو يقول إن رأي الرئيس ترمب لا يختلف عن رأيه، وإن حكاية حل الدولتين حكاية غير واقعية، وإن الفلسطينيين لا يؤمنون بحق الدولة العبرية في الوجود، وإن غزة كانت بمثابة دولة فلسطينية فكانت النتيجة ما حصل ولا يزال.

حسناً. إذا كان حل الدولتين ليس واقعياً فما هو الحل؟ فالذين ينكرون حل الدولتين أو يجدونه غير واقعي مدعوون إلى طرح البديل، لأن هاكابي ليس وحده فيما يراه، ولأن هناك آخرين يقولون ما يقوله، وليس سراً أن إنكار حل الدولتين أو الهروب منه كان هو المقدمة الطبيعية لـ«طوفان الأقصى» الشهير، لأنك لا يمكن أن تنكره ثم تتوقع أن يقبل الفلسطينيون بما تقول.

الرئيس الجديد يقول إنه سينهي الحروب في كل مكان، ولا يكاد ينتهي من قول ذلك حتى يكون قد سارع إلى القول بأنه ليس واثقاً من قدرة الهدنة التي وقّعها الطرفان المتحاربان في غزة على الصمود، وهذا الكلام من جانبه ليس سوى دعوة غير مباشرة إلى الإسرائيليين ليستأنفوا ما بدأوه في مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى»!

وهو حين يرسل سفيراً إلى تل أبيب هذه هي أفكاره المعلنة في القضية، فلا معنى لذلك إلا أنه في بدء فترته الثانية في مكتبه البيضاوي يقول الشيء وعكسه، أو يقول إنه سيوقف الحروب في كل مكان، ولا ينتبه إلى أنه ينفخ في نار حرب غزة من طرف خفي، سواء بحديثه عن عدم ثقته في صمود الهدنة، أو بأفكار سفيره المعلنة على الناس.

ثم إن الحرب ليس من الضروري أن تكون بالدبابات والمدافع والصواريخ، وإنما يجوز أن تكون بإثارة المشكلات والحساسيات في كل الأنحاء. يمكنها أن تكون كذلك إذا صار التوتر عنواناً للعلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا على شاطئي الأطلنطي، ويمكنها أن تكون كذلك إذا أصبح الغضب هو السمة الأولى في سمات العلاقة بين الولايات المتحدة وبنما، ويمكنها أن تكون كذلك إذا أمسى السخط سيداً للموقف في النظرة التي يتطلع بها أهل جزيرة غرينلاند إلى بلاد العم سام، أو حتى تتطلع بها الدنمارك التي تتبعها الجزيرة.

لقد بدا ترمب وهو يتكلم عن رغبته في ضم الجزيرة إلى بلاده، كمن ذهب يخطب فتاة وهو يعرف أنها في الأصل متزوجة وأن زوجها حي يُرزق!

وليست آراء السفير هاكابي، ولا حديث ترمب عن عدم ثقته في صمود الهدنة، ولا كلامه عن غرينلاند، ولا أطماعه في قناة بنما، ولا حتى رغبته في أن تكون كندا ولاية مضافة إلى الولايات الخمسين الأميركية، ولا مزاجه السياسي المنحرف تجاه القارة الأوروبية، ليس هذا كله على بعضه إلا قطرة تدل على مذاق البحر.

والغالب أن العالم الذي أطل عليه ترمب للمرة الثانية هو عالم سيئ الحظ، لأنه سيكون عليه أن يوطن نفسه على أن يكون هذا هو الماء الذي يشربه لسنوات أربع. قد يكون ماءً مُراً، وقد يتأفف الشارب وهو يتناوله، وقد يتجرعه وهو لا يكاد يسيغه، ولكن مشكلته أنه لن يقع على ماء بديل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد