كان يحيى السنوار يأمل أن تشن طهران من خلال أذرعها الإقليمية – ولاسيما منها "حزب الله" – حرباً حقيقية على العدو الإسرائيلي بدلاً من حرب الإسناد، أي في اليوم التالي لـ 7 تشرين الأوّل 2023. لكنّ طهران لم تفعل...! ولعلّ السنوار تفاجأ بهشاشة قوّة المحور! وكانت النتيجة ما وصلنا اليه من دمار هائل في غزّة ودمارٍ مماثل للجنوب اللبناني العزيز على قلوبنا جميعاَ. تعرّض أركان المحور لخسائر جسيمة: من زعزعة القوّة العسكرية والمالية لـ"حزب الله" إضافةً الى خلاص سوريا من النظام الأسدي... الأمر الذي أدّى الى طوفان لبناني تجسّد بانتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية بعدما عطّلت طهران الإنتخابات الرئاسية لأكثر من عامين، وسبق أن فعلت ذلك بعد إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. الرئيس الاميركي جو بايدن كان واضحاً في تصريحه (19-1-2025) حين أشار الى أنّ تراجع نفوذ إيران أدّى الى إضعاف "حزب الله". ويا حبذا لو أن طهران تنطلق من المعطيات الجديدة وتتوقف عن التدخل في شؤون الدول الاخرى وتعمل بالتنسيق مع الدول المجاورة على مشروع تنموي نهضوي يُساهم في تنمية المنطقة وإستقرارها.
خطاب القسم أوجد حالةً من الكاريزما للرئيس. فلقد تعلّق الناس به من خلال ما أورده من عزمٍ لإسترداد سيادة الدولة وبسط سيادتها وإحقاق الحق والتسليم بما يقرّه القانون، إضافةً الى حرصه على حماية ودائع الناس. هذه الحالة الكاريزمية، تُذكر المرء حسبما تُشير الوثائق بخطاب الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت 12 آذار مارس 1933 عبر الإذاعة خلال فترة الكساد الكبير، حين طمأن من خلاله الى أنّ أزمة البنوك ومشكلات النظام البنكي في طريق الحل، ,أنّ بإمكانهم إستعادة الثقة بالبنوك المحلية الامر الذي خلق ارتياحا كبيراً بين جموع الأميركيين، وهذه حال اللبنانيين حين وعدهم الرئيس عون بحماية الودائع.
مبروكٌ، للبنان واللبنانين بإنتخاب العماد جوزف عون رئيساً للبنان. النّاس على يقين أنّه سيكون عوناً للبنان واللبنانيين. بُعيد إنتخاب سلفه ميشال عون إرتفعت لافتات تقول: عونٌ للجمهورية! والحق، أنّه كان عالةٌ عليها وعلى اللبنانيين جميعا. وأكاد أجزم أنّ ما من رئيسٍ للجمهورية في العالم وعد مواطنيه بجهنّم إلاّ ميشال عون...! والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد وأن تُحصى: من إنفجار مرفأ بيروت 4 آب 2020 الذي ادّى الى مقتل ما يزيد عن 200 مواطن وجرح 6000، إضافةً الى الدمار الذي لحق بمئات المباني. يومها زار عون المرفأ وتعهد إنجاز التحقيق في خسمة أيّام. إنتهى عهده ولم يطرأ أي تقدم على التحقيق. وهل نُذكر بسرقة ودائع الناس والتلكؤ بأخذ ما يلزم لإستردادها، بإنتشار الفساد على كل المستويات، إضافة الى تسليم زمام الأمور الى حليفه "حزب الله" وصهره جبران باسيل، وهذا إجراء لم يشهده لبنان منذ إستقلاله؟!
في قولٍ لأنغلز "التاريخ يتقدّم من الجانب الأكثر سواداً". ومن الواقع الكالح الذي ساد السنوات الماضية آمل اللبنانيون أن يُشكل إنتخاب العماد جوزف عون بارقة أمل تُلغي سواد عهد سلفه وتُنير الطريق لمشاركة رئيس الوزراء الجديد الصديق نواف سلام ، والذي كان إختياره رئيساً للوزراء هو الإختيار الصائب. الثابت أنّ الرئيس عون هو معنا، منّا، ولنا. وهذا ما يُجمع اللبنانيون عليه في ضوء إخلاصه، وطنيته، مناقبيته ونظافة كفّه.في قولٍ للعلاّمة الفرنسي ليون دوغي: "ليسَ للقانون الدستوري من ضابط سوى حُسن نيّة الرجال الذين يطبقونه، وأمانتهم، وأخصّهم رئيس الجمهورية". ولا أحد من الشرفاء إلاّ يُشيد بنيّة الرئيس الجديد وأمانته. دأب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون على ترداد صلاحية رئيس الجمهورية والميثاقية. صهره جبران باسيل عطّل عمل مجلس الوزراء بحجة الميثاقية في حين كان وزراؤه يداومون في وزاراتهم ويعقدون المؤتمرات ويسافرون في مهماتٍ الى خارج لبنان. لكنّ هذا لن ينطبق على الرئيس الجديد لأنّني على يقين أنّ نهجه يتطابق مع ما ذكره البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ندّى الله تربته... "إنّ صلاحيات رئيس الجمهورية تُستعاد فقط من خلال قيّم الترفع والتجرد وحفظ المال العام لخدمة المصلحة العامة ولم شمل جميع اللبنانيين واحتضانهم وغمرهم بروح الأبوة. فحين يستعيد الموارنة تلك القيم، يستعاد الكثير من صلاحيات رئيسهم. فمتى إستعاد الموارنة هذه الروحانية وأنتجوا قيادات تتحلّى بها وتشهد لها شهادة الحياة المعيوشة، إذ ذاك يستعيدون الكثير من صلاحيات رئيسهم المتناقصة والنصوص (حارس الذاكرة، محاضر سريّة، جورب عرب 1990).
الـ 99 صوتاً التي نالها الرئيس جوزف عون، ذكّرتني بعدد أعضاء المجلس النيايبي قبل إتفاق الطائف: يومها، التأم 99 نائباً عام 1970 لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس الراحل شارل حلو. كانت أشرس معركة رئاسية أدّت الى فوز سليمان فرنجية (50 صوتاً بفارق صوت واحد لـ الياس سركيس 49 صوتاً). ومع أنّ الدستور كان ينص على النصف زائداً واحداً لكنّه تمّ التغاضي عن ذلك بناءً على نصيحة الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب طيّب الله ثراه (حقناً للدماء؟). تبع ذلك تأليف حكومة تكنوقراط برئاسة الرئيس صائب سلام. كانت حكومة تكنوقراطية 100%. يومها عنونّت "النهار" صفحتها الأولى بـِ "حكومة مجهولين". أتمنى ألا يكون مصير حكومة العهد التكنوقراطية كمصير حكومة سلام 1970 التي تعثّرت مسيرتها. لا يزال في الذاكرة استقالة الراحل الكبير غسان تويني من وزارة التربية حين تعارضت اصلاحاته المقترحة مع توجهات العهد، إضافةً الى كبيرٍ آخر هو الدكتور إميل بيطار الذي إستقال من وزارة الصحة لانّ العهد لم يتجاوب معه لكسر احتكار تجّار الأدوية.
على الحكومة المرتقبة برئاسة الرئيس نواف سلام أن تكون حازمة وعازمة على وضع الأمور في نصابها. تحديد مدّة زمنية لإقامة حزمة الإصلاحات المطلوبة، فإذا لم تُقر لأي سببٍ كان، فإني أوصي الرئيس سلام بتقديم إستقالته إحتجاجاً على ذلك. ساعتئذٍ سيكون التاريخ شاهداً له وليس شاهداً عليه! ما يريده الناس في موازاة حزمة الإصلاحات كشف الممارسات الفاسدة كالتدقيق على سبيل المثال في حسابات مصرف لنبان ووزارتي الطاقة، والإتصالات وغيرهما من الوزارات، إعادة الأموال المهربة بعد 17 تشرين الأوّل 2019. ووضع حد لتسلط لوبي المصارف وعرقلته لأيّ إصلاحات للقطاع المصرفي والمالي. يؤكد وزير المال السابق الصديق غازي وزني في كتابه ("الانهيار المالي في لبنان... تجربة ووقائع"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2024) "أنّ المصارف نجحت بعرقلة خطة الحكومة وإفشال الإصلاحات المطلوبة ومقاومة الحلول المطروحة كي لا تتحمل خسائر في رساميلها ولا تضّطر الى تنازلات".
أنا على يقين أننا سوف نشهد تعاوناً مثمراً بين الرئيسين عون وسلام. قالها الرئيس عون في خطاب القسم بكل وضوح: "فرئيس الحكومة هو شريك في المسؤولية لا خصم"، على عكس ما كانت الحال زمن خلفه. رئيس الجمهورية هو فوق الكل، لكن... مع الكل! هو حامي الدستور ورمز وحدة البلاد. في مقالٍ سابقٍ لي (الإنتخابات الرئاسية هل نحظى بفؤاد شهاب آخر "النهار" الجمعة 27-12-2024)، ذكرت أنّه لم يكن من الضرورة إتفاق الطائف الذي تمّ التوصل اليه بحجة تكريس المشاركة، ولا أدري ماذ استفاد اللبناني المسلم من اتفاق الطائف الذي دفع اللبنانيون أثماناً باهظة للوصول إليه؟ الراحل الكبير فؤاد شهاب بحكمته، ونزاهته وصواب رؤيته كفّى ووفىّ! ويقيني أنّه سيكون المثل والمثال للرئيس جوزف عون.
في قولٍ لأنطوني غرامشي "النظام القديم يموت والجديد لم يولد بعد، وفي فترة العرش بين النظامين تظهر مجموعة كبيرة من الأعراض السقيمة!". وأملي كبير، بعد طي صفحة المسار القديم والممارسات الفادحة والخاطئة في حق لبنان واللبنانيين... وفي إنتظار تجسيد تطلعات العهد الجديد، أن يتوقف بروز بعض الأعراض السقيمة من بعض الأطراف!
في حكمةٍ عربيةٍ قديمة "إنه من الصعب عليك أن تسقي جواداً يرفض أن يحني رأسه". ويقيني انّ الرئيسين عون وسلام سيرفضان أن يحنيا رأسيهما إلاّ للدستور والقانون ولشموخ الأرز.