لم تشهد العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها القديمة في القارة الأفريقية من التدهور والتأزم مثل ما تشهده هذه الأيام، ولا يقتصر هذا التدهور على جانب واحد من العلاقات بل يشمل جميع الجوانب، سواء كانت سياسية، اقتصادية، عسكرية، أو حتى ثقافية. وإذا كانت مواقف شعوب هذه الدول الناقدة لفرنسا والناقمة عليها هي المواقف الأشد بروزاً والأعلى صوتاً، فإن المواقف الرسمية المعبر عنها علناً من طرف رؤساء بعض هذه الدول في خطاباتهم الرسمية وفي تصريحاتهم أمام وسائل الإعلام المحلية والدولية، لا تختلف عن المواقف الشعبية السائدة في تلك الدول بل تتطابق معها حدّ التماهي، هذا إن لم تكن تتقدّمها وتقودها.
يتجلى المظهر الأول لتدهور العلاقات الفرنسية- الأفريقية، حتى لا نقول انهيارها، في الأحداث الدرامية التي نشهدها اليوم في منطقة دول الساحل (مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد) والتي عصفت بالعلاقات مع فرنسا وألحقت بها ضرراً بالغاً طال جميع أوجهها.
تجدر الإشارة إلى أن هذه العلاقات، التي تمّ نسجها على مدار أكثر من سبعة عقود من التعاون الوثيق بين عواصم هذه الدول الأربع وباريس، انهارت في فترة وجيزة لا تتجاوز ثلاث سنوات، بعد موجة من الانقلابات العسكرية اجتاحت المنطقة وأفرزت جيلاً جديداً من القادة العسكريين الشعبويين الذين يريدون قطع الحبل السري الذي يربط بلادهم بمستعمرهم القديم، هذا المستعمر الذي يحملونه المسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن تردّي أوضاع بلادهم الأمنية والاقتصادية.
غير أن وباء الساحل الذي أصاب فرنسا ودفعها إلى تفكيك قواعدها العسكرية وخروجها السريع من المنطقة، لم يقتصر على منطقة الساحل وحسب، بل امتدت عدواه إلى دول إفريقية أخرى لا تنتمي بالضرورة إلى منطقة الساحل، مثل السنغال والتوغو. ففي السنغال مثلاً، وهي إحدى الدول الإفريقية القليلة التي لم تعرف انقلاباً عسكرياً منذ أن استقلت عن فرنسا سنة 1960 –على عكس دول الساحل– ما إن وصل باسيرو فاي إلى سدة الحكم بطريقة ديموقراطية سنة 2023 حتى طالب فرنسا بسحب جنودها الموجودين في الأراضي السنغالية.
وقام باسيرو فاي في الوقت ذاته بتنظيم مؤتمر دولي لإحياء الذكرى الثمانين لمجزرة الرماة السنغاليين الذين أعدمتهم فرنسا بدم بارد سنة 1944 لمجرد أنهم طالبوا برواتبهم. ويقدر بعض المؤرخين السنغاليين عدد هؤلاء بـ400 جندي. رغم ذلك لا تزال العلاقة بين دكار وباريس قائمة على التعاون في مجالات متعددة، بيد أن دكار تمشي حالياً على البيض، وتحاول إعادة تقييم هذه العلاقة بما يتماشى مع مصالحها الوطنية، دون الدخول في مواجهة مباشرة كما هو الحال مع بعض دول الساحل. ولا تختلف توغو عن السنغال، فهي الأخرى أصابتها عدوى “وباء الساحل” وبدأت تشاغب بطريقتها الخاصة وترفع صوتها في وجه باريس في تناغم تام مع الأصوات الإفريقية الأخرى المنتقدة للهيمنة الفرنسية والداعية للخروج عن سيطرتها وسطوتها.
لم تخل مواقف توغو، ممثلة في وزير خارجيتها روبرت دوسي، من شجاعة وجرأة وغرابة في بعض الأحيان، فتصريحاته التي أطلقها أثناء المؤتمرات الصحفية مع نظرائه الأفارقة والغربيين، بمن فيهم نظيره الفرنسي، تسير على النقيض من الموقف الفرنسي وفي مواجهته، حيث كان الوزير دوسي واضحاً وضوح الشمس في دعمه للانقلابات العسكرية التي عرفتها دول الساحل، وفي معارضته الشديدة للعقوبات التي تفرضها المنظمات الدولية والإقليمية على الدول التي تقوم فيها انقلابات عسكرية بدعوى المحافظة على الديموقراطية والمؤسسات الدستورية، وهو ما اعتبره البعض خروجاً عن التقاليد الديبلوماسية التوغولية التي اتسمت على الدوام بالاعتدال والهدوء.
إلا أن ذلك لم يكن نشازاً في الحالة العامة التي تمر بها القارة الإفريقية. ولئن كان الوجود الفرنسي في إفريقيا يعرف تحديات عديدة، فإن بعضها يعود إلى فرنسا نفسها التي عرفت في سنواتها الأخيرة انعطافة حادة نحو اليمين المتطرف، أسفرت عن موجة عارمة من العنصرية المقيتة ضد الجالية الإفريقية وما تحمله معها من قيم أخلاقية وتقاليد دينية، وذلك من منطلق الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا).
لقد تردد صدى هذه الموجة في أفريقيا، فظهرت موجة مضادة كارهة لفرنسا وثقافتها وقيمها، يمكن أن نطلق عليها اسم "فرانكوفوبيا"،عبّرت عن نفسها بصيغ مختلفة يتداخل فيها الموقف السياسي بالفعل العسكري. وليس بعض ما يحدث في دول الساحل من هذا ببعيد.