لم أسمع في حياتي تصنيفًا للحقائب الوزاريّة كالذي أسمعه عندنا. ففي لبنان حقائب وزاريّة سياديّة كالداخليّة والدفاع والمال والخارجيّة، والبعض يضيف إليها النفط والصحّة والأشغال والتربية. وكأنّ الحقائبَ الأخرى تحفِّزُك على التفريط بالسيادة!
وبنظرِ جهابذة السياسة اللبنانيّة، هناك وزارات عاديّة مثل السياحة والثقافة والتنمية الإداريّة والبيئة. تصنيفاتٌ تثير اشمئزازي. وزارات "سينْيِيه" signée ووزارات تشبه "سوق الأحد". عينُ الأحزابِ بالدرجةِ الأولى على الوزارات "الهَبْرة".
لحظة يا جماعة. ماذا يعني أن تطالب بوزارة الداخليّة؟ هل هذا يعني أن تُسخِّر الأجهزة الأمنيّة التابعة لها لصالح هذه الجهة السياسيّة أو تلك؟ وهل تعني مطالبتُك بوزارة الخارجيّة أن يروِّج الوزير لنفسِه ولخياراته السياسيّة الحزبيّة؟ أم أنّ الخارجيّة مؤتمَنة على رفع اسم لبنان في الخارج، ومواكبة الأحداث العالميّة من منطلق تنفيذ مصلحة لبنان العليا؟
وهل مطالبتُك بوزارة الأشغال مثلاً تعني أن لكَ فرصةً أفضل "إنّك تزفِّت الطريق قدّام بيتك"، وأنّك ستنفِّذ مشاريع أكثر وأوسع في منطقتِك وفي مناطق تشبه المذهب أو الحزب اللذين تنتمي إليهما، وأنّ المتعهّدين الكبار سيقفون "على خاطرك" وهُم يتملّقونك لترجيح كفّتهم في الفوز في المناقصات؟
وهل مطالبتك بوزارة الصحّة مثلاً تعني أنك ستزيد من حصّة المستشفى الذي في منطقتِك في ميزانيّة الوزارة، وتقتطع من ميزانيّة مستشفىً آخر، أصحابُه لا يشبهونَك لا في السياسة ولا في الدِين؟
وهذا يقودُني إلى أسئلةٍ أكبر: وهل الوزارات هي لتنفيعات "بيت بيّك"؟ أم هي لخدمة لبنان الدولة ولبنان المواطن؟ وهل الحقائب الوزاريّة مغانم للوزراء والأحزاب أم هي حقائب وزاريّة لتيسير شؤون الناس؟
غرابةٌ ما بعدها غرابة هي هذه المطالبات. إنّي أتمنّى لو أنّ وزارتَين على الأقل تبقيان خارج إطارِ السياسة والأحزاب، ولا همّ عندي ساعتها في أن يكونَ الوزير مسلِماً أو مسيحيّاً. الوزارةُ الأولى هي وزارةُ الماليّة. لا يعنيني كثيراً إذا أصرّ الشيعةُ على تولّيها، ولا يهمّني كثيراً إذا أصرّ المسيحيّون والسنّةُ على المداوَرة. لماذا لا يكون على رأس وزارة المال وزيرٌ تكنوقراط ذو مواصفات محترفة عالميّة؟ المالُ عصبُ الحياة. وزيرُ المال يستطيع، من ضمن القانون، وهنا تكمنُ الخطورة، أن يفتحَ الحنفيّةَ هنا وأن يقفلَها هناك. ومن منّا يقدرُ على أن يكونَ موضوعيّاً وحِرَفيّاً في أدائه مع الجميع وفي كلِّ آنٍ إن كان حزبيّاً ملتزماً وله في الوزارات الأخرى خصومٌ كي لا نقول أكثر؟
الوزارةُ الثانية هي وزارةُ التربية التي أتمنّى من كلّ قلبي أن يكونَ على رأسِها خبيرٌ تربوي يتمتّع بمهاراتٍ إداريّة عالية وذكاءٍ علائقي Relational Intelligence. لماذا؟ ذلك لأنّ خبيراً تربويّاً من دون مهارات علائقيّة لا يستطيع أن يديرَ أكبرَ مؤسّسة في القطاع العام، ووزير التربية سيحتاج إلى الذكاء العلائقي لكي "يشبك" مع كلّ الناس من كلّ المناطق والانتماءات، فلا "يجفل" من مجموعةٍ لبنانيّة، ولا يساير جماعةً أُخرى. يعتقد كثيرون أنّ وزارةَ التربيةِ تضعُ المناهج، وتبني المدارس، وتوظّفُ الأساتذة، لكنّ عملَ الوزارة الحقيقي هو أعظم من ذلك. وزارة التربية مسؤولةٌ عن أخطرِ مهمّةٍ في لبنان، وهي الإجابة عن السؤالَين التالييَن: أيَّ مواطنٍ لبناني نريد؟ وأيَّ إنسانٍ نريد في وطننا؟ وأعتقد أنّ السياسيين، مع فائق الاحترام لهم، غيرُ مهيّئين للإجابة عن هذين السؤالَين.