في زمن الحرب يكمن النصر في تغيير السياق الاستراتيجي، وما يتحقق من أهداف قريبة ومتوسطة وبعيدة، لصالحك. أما في السلام فتقاس نجاحات أي أمة في التكيف والارتقاء بنموذجها الثقافي والحضاري والنهوض بمقدراتها البشرية، نحو تفوق حاسم.
أزعم أن الطرفين خاسران في حرب غزة. فكيف لا تكون خسارتهما، خسارة للفلسطينيين وللسلام؟ بحساب السوق يخسر نتنياهو الحرب. ولو استمر فسيخسر السلام! فكيف نقيس ذلك؟
في القريب، يؤكد وزير الدفاع الإسرائيلي ذاته، خيبة سيرة القضاء على «حماس»، بقدر ما يخيبها تاريخ الصراع؛ إذ، بغض النظر عن القرارات الأممية، يستمر الفلسطينيون في التكاثر، ويقاتلون تحت أي راية كي يبقوا أحياءً. أما سيرة استعادة المحتجزين فهي طرفة عسكرية بقدر ما لا يصدقها أصحابها، بقدر ما هي فاجعة وخائبة ومأساوية. وأما سيرة السيطرة على غزة على المدى الطويل، فهي وصفة لحرب استنزاف أبدية، تدمر كل ما بنته إسرائيل بعد اتفاقيات السلام.
الأصل في الانتصار بالحروب، على المديين المتوسط والبعيد، أن تقلب السياق الاستراتيجي. والأهم أن تضمن هيمنتك ودورك وتؤكد مصالحك ونموذجك القومي الثقافي في محيطك.
ورب أمم خسرت حرباً، فقلبت لب عقيدتها وغيرت جلدها السياسي والقافي لتعود وتنتصر سلماً. أليست ألمانيا واليابان مثالاً على ذلك. وكذلك تيمورلانك ربح حروبه جميعاً، لكنه لم يلصق في الأرض يوماً، لينتهي كـ«سفاح عظيم» ومشروع إمبراطوري منخور. ثم أليست سيرة أميركا في أفغانستان والعراق، مثالاً لأمة تربح الحرب وتخسر السلام. وكذا فيتنام التي ربحت الحرب والسلام. وإذ تشتق الاستراتيجية الأبعد لنتنياهو، في معظمها، من الفكر القومي المتطرف لجابوتنسكي، يمكن أن نستقرئ سياسته من مواقفه. لا يتحدث نتنياهو إلا عما لا يريد! لكن لا يصعب اكتشاف ما يريد ويستبطن: إنه لا يريد مفاوضة الفلسطينيين، ولا السماح لهم بدولة، ويستمر بخنقهم والتضييق عليهم. ولطالما كانت مشروعات التطفيش لمصر والأردن على الطاولة.
أما وإنه فشل ذريعاً في ذلك، فنتنياهو خاسر مهما فعل! بل، وفي سياق تطور الوضعين الإقليمي والدولي وتطور المسألة الفلسطينية، يصير حتى التطفيش الخلاسي للفلسطينيين، أصعب بكثير.
عملياً، لو أن نتنياهو تمكن من تطفيش الفلسطينيين، لصار النصر في جيبه أصلاً، ولأمكنه تفادي مأزقه الحالي. إذ يثبت التاريخ أن القتل لا يصنع نصراً ولا يرهب أحداً ولا يخلق إلا أوهاماً. الخسارة الأهم هي الاستراتيجية الدولية والإقليمية طويلة الأمد لإسرائيل.
واهمٌ من يعتقد أن نتنياهو سيتمكن من إعادة تموضع إسرائيل كما كانت قبل الحرب لا إقليمياً ودولياً. لكن أقله أن لعبة «البينغ بونغ» مع إيران لم تعد صالحة. وتتلاشى أحلام نتنياهو في تأسيس تحالف في الإقليم قوامه محاربة إيران.
أما أميركياً فثمة ما يقال. لطالما ركن نتنياهو إلى الثدي الأميركي ليعزز به قوته ومكانته. لكنه يعرف منذ زمن، أن لحظة الفطام قد حانت (ولا أقول لحظة التخلي)، وأن أميركا تنكفئ عن الإقليم استراتيجياً، بعد أن أفل زمن الهيمنة المباشرة.
وما إن بدأت ملامح الانكفاء في التبلور، لم يترك نتنياهو حضناً بديلاً، شرقاً وغرباً، إلا وارتمى به، ليجد نفسه، في لحظة الجد، عائداً للحضن الأميركي.
أزعم أنه، لئن كان الحضن الأميركي لا يزال دافئاً، فإن ثديه ينضب. وأزعم أن الرئيس الأميركي الحالي قد يكون الأخير من رؤساء أميركا الذين لا تمس سيرتهم شائبة تجاه إسرائيل. فكيف لنتنياهو، باستراتيجيته الصماء هذه أن يربح أي سلام؟
لذلك أزعم أن نتنياهو يخسر في الحرب بقدر ما سيخسر في السلام. أما إبقاء إقليمنا على صفيح ملتهب، فلن يكون لصالح مستقبل إسرائيل.
بل تأتي الانتقادات من جهات غير متوقعة، إذ حذر وزير الدفاع البريطاني السابق، بن والاس، من تأثير يستمر لمدة 50 عاماً. بل يصرح بايدن عن مخاطر سياسة نتنياهو، على مستقبل إسرائيل.
على الجهة المقابلة، كيف للفلسطينيين بعدما تكبدوا ما تكبدوا، أن يعيدوا إنتاج مشروعهم الوطني. فلقد كان السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كاشفا بائناً.
وفي حين اكتفت إيران بلعبة «البينغ بونغ» والصفقات من تحت الطاولة، تمكنت الدول العربية الرئيسية؛ وفي مقدمتها السعودية ومصر، من ضبط موقفها بدقة، ما بين إجهاض مخطط التطفيش من جهة، ومن جهة أخرى عدم الانجرار لحرب إقليمية ضروس أرادتها إيران حرباً بالوكالة، ليتحول الإقليم لمكسر عصا دولي. وبعد أن داور نتنياهو المفاوضات شهوراً، لم تتمخض المقترحات الأميركية إلا على حل يؤكد الدور الجوهري للدول العربية. ولعل هذا هو المخرج الوحيد لئلا تكون الخسارة الهائلة للطرفين، خسارة للفلسطينيين وللسلام في مجمل الإقليم.