لعل إحدى أبرز عثرات النظام السياسي اللبناني، بالإضافة إلى لوثته الطائفيّة والمذهبيّة التي عاقت وتعوق أي تقدّم فيه لناحية تكريس المساواة بين المواطنين اللبنانيين، هي غياب المساءلة الدستوريّة والسياسيّة والقضائيّة بكل آلياتها وأشكالها. وهذا الوهن الكبير يجعل اللعبة السياسيّة برمتها تدور في حلقة مفرغة، بحيث تعيد الطبقة السياسيّة إنتاج نفسها بما يعطل إحداث التغيير، وإذا حصل خرق ما فيبقى عاجزاً عن تبديل المعادلات القائمة.
وأسهم في تعميق هذا المأزق، أي غياب المساءلة، الطابع «التوافقي» للديمقراطيّة اللبنانيّة الهشة، الأمر الذي جعل من آليات اتخاذ القرارات السياسيّة مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد تتطلب تفاهماً وطنياً عريضاً حتى في أكثر الأمور بساطة (وتمثل أمام اللبنانيين تجربة تعليق قرار تعيين مأموري وحراس الغابات لغياب التوازن الطائفي بين المرشحين للوظيفة!).
وعلى أهميّة الجانب «التوافقي» في الحياة السياسيّة اللبنانيّة بسبب طبيعة التركيبة الفسيفسائيّة المتنوعة، الذي يقف حائلاً دون تفرّد فريق أو عدد من الأفرقاء بالتكافل والتضامن من الاستئثار بالقرارات الكبرى؛ إلا أن المبالغة في ممارسته بطريقة مشوهة (أي تعطيل إصدار القرارات وليس المشاركة في صناعتها) جعلت الواقع اللبناني يمر بأزمات متتالية وهي بغالبيتها مفتعلة وغير مبررة وقابلة للحل عند توفر الإرادة السياسيّة لدى الجهات النافذة والأطراف الفاعلة في البلاد.
ويمثل في الدرجة الأولى كدليل على هذه القضيّة الشغور في رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، عقب إخفاق المجلس النيابي اللبناني في انتخاب خلف للرئيس السابق ميشال عون ضمن المهل الدستوريّة، وما تلاها من شهور طويلة تحوّل النقاش فيها من انتخاب الرئيس إلى أحقيّة الحوار قبل الانتخاب من عدمه. وبين المطالب بالتطبيق الأعمى للدستور والمتغاضي عنه كأنه ليس موجوداً، مرت الأيام والشهور ولا تزال البلاد من دون رئيس للجمهوريّة.
ليس هناك أسوأ وأخطر من التلاعب بالمواثيق الأساسيّة التي تقوم عليها الأوطان. والممارسة هنا يجب أن تكون مرتبطة أساساً بشيء من الثقافة السياسيّة والدستوريّة. احترام الدساتير وتطبيقها ثقافة بذاتها قبل أي أمر آخر، والتغاضي عنها ودوسها هو «الثقافة» أو السلوك المناهض تماماً. للأسف، مستوى الأداء السياسي اللبناني في العقدين الأخيرين انحدر إلى الحضيض، والخروج منه يكون عبر رفع مستويات الوعي ليتسنى للبنانيين ممارسة الحرية بعقلانية ومسؤولية وموضوعيّة.
لقد كانت هذه الحرية، وتبقى، ميزة لبنان الأساسيّة والجوهريّة في ظل السواد الذي يكتسح المنطقة برمتها التي لم تنتعش الديمقراطيّة فيها يوماً بل تكرست فيها سطوة الديكتاتوريات والعسكريتاريا وسواها من أنظمة الحكم القاتمة.
ولكن، ما يبدو كأنه تغريد خارج السرب، هو أن الحفاظ على هذا المناخ من الحرية والاستقرار في لبنان هو مصلحة لبنانيّة (بالتأكيد بالدرجة الأولى) وعربيّة وإقليميّة، ذلك أن التلاعب به سوف يولد عواقب وخيمة وفي غاية الخطورة على المنطقة، كما أن أكلاف الحفاظ عليها تبقى أقل من أكلاف انفجارها.
الأكيد أن المسؤوليّة هي مسؤولية لبنانيّة قبل أي شيء آخر، وأن الخروج من المأزق يفترض أن يكون لبنانياً أيضاً قبل أي أمر آخر. لقد آن أوان بلوغ سن الرشد السياسي، وقد طال انتظاره، ذلك أن الخسائر المتأتية عن تأخره لا تزال تولد الأزمات تلو الأزمات وهو ما يعرّض البلاد للاهتزاز.
إذا كانت تجربة الحرب الأهليّة المريرة والطويلة (1975- 1990)، مع كل خسائرها البشريّة والماديّة والاقتصاديّة قد انتهت إلى أن حافظ لبنان على وحدة أراضيه، فهذا لا يعني أن أي اقتتال لبناني - لبناني سوف يفضي هذه المرة إلى النتيجة ذاتها حتى ولو اختلف شكل الصراع وهوية الأطراف المتصارعة، خصوصاً مع ارتفاع أصوات التقسيميين الذين يريدون تمزيق البلاد والهروب إلى الأمام.
يستحق لبنان أفضل مما هو فيه أو مما سيسقط فيه ما لم تتحرّك الأمور في اتجاهات جديدة يكون عنوانها الأساسي الانفراج والاستقرار والسلم الأهلي.