المقاربة الأميركية والأوروبية لمنطقة الشرق الأوسط قديمة وبالية ومرتبكة، هذا صحيح، لكن الأدق أيضاً أنها خطرة الآن بما تمنحه من قُبل الحياة للميليشيات والتنظيمات المتطرفة والجماعات المسلحة من انتصارات وهمية عبر سياسات الإهمال من جهة، والإصرار على المعالجة المتعجّلة التي لا تستند إلى فهم تحولات المنطقة بعد حرب العراق، والانسحاب من أفغانستان، ثم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما بين هذه المفصليات من تهشم الكثير من العلاقات والتحليلات والشعارات في الشرق الأوسط الذي يتجه إلى دوامة من الفوضى سندفع ثمنها طويلاً على مستوى المعالجة والترميم لانكسارات بنى الدول التقليدية والمجتمعات التي تم اختطافها من المشاريع التقويضية والميليشيات.
هذا ليس تشاؤماً، أو مجرد حديث منفعل من قلب المنطقة، بل بات اليوم قناعة تتشكل لدى عدد من الباحثين والمحللين في أكبر المراكز، وعبر تقارير صحافية، كان آخرها على سبيل المثال ما كتبه هال براندز في «بلومبرغ»، وهو أستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، تحت عنوان: «أميركا تخسر معركة البحر الأحمر»، مؤكداً استمرار بقاء حرب غزة، وهو ما لم يتوقعه أي شخص تقريباً، والأكثر مفاجأة أن ميليشيا الحوثي المتطرفة التي لم يكد يسمع بها الأميركيون تشكل بسبب مقاربة الولايات المتحدة وبريطانيا أكبر تحدٍّ لحرية الملاحة منذ عقود، وليس الأمر متعلقاً بما يظهرونه من تعاطف تجاه فلسطين بقدر ما أنه ترسيخ لما يوصف بـ«محور الممانعة»، وتقوية لأذرع ووكلاء إيران في المنطقة، هذا عدا عن النتائج الكارثية للمنطقة من انخفاض حرية المرور لقناة السويس بما يزيد على النصف، وحرمان مصر من العوائد، وصولاً إلى خطر بيئي محدق بأهم ممر تجاري يحوز ١5 في المائة من التجارة العالمية، وذلك إثر استهداف ناقلات النفط، ومخاوف من تسرب نفطي ستكون عواقبه وخيمة على اليمن أولاً، والمنطقة من دون أي اكتراث من الميليشيا غير المسؤولة سوى المزيد من حالة العسكرة للمنطقة.
وعوداً لبراندز، فإن الملاحظة الذكية التي أبداها في السياق ذاته هي أن «التآزر الميليشياوي» بين وكلاء إيران هو أكبر مكافأة جيوسياسية لبكين وموسكو، وهذا صحيح، لأن الصين وروسيا لا تتحملان أعباء الشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته تستفيد كلتاهما بنسب متفاوتة من أعباء الأزمة، وإضعاف بل وإفشال المسؤولية الأميركية والأوروبية، والتي تزداد هشاشة في فشلها في شيء بسيط، وهو إيقاف حرب غزة، والاستماع إلى دول الاعتدال، وفي مقدمتهم السعودية، كما تفشل في إدارة التركة الثقيلة لمناطق التوتر التي أدارت لها ظهرها في العراق وأفغانستان ولبنان واليمن والقرن الأفريقي، وهي بؤر قابلة للاشتعال في أي وقت، وللمزاحمة في الاستثمار فيها، مع بقاء الأمر الواقع كما هو عليه.
الشعارات والمقاربات المتعجلة لم تؤسس دولاً، فضلاً عن قدرتها على إنقاذ أوضاع معقدة وقاتمة، وهذا درس تاريخي ليس مجانياً دفعت وتدفع فيه منطقة الشرق الأوسط أثماناً باهظة ومكلفة، إذ تؤكد الصيرورة التاريخية منذ لحظة الاستقلال مدى التعقيد الكبير لواقعنا السياسي، كلما ابتعدنا عن صخب الأحداث المتوالية، وحالة التجريب الآيديولوجي والميليشياوي والعقائدي، والذي أفرز على مستوى الواقع وليس النظريات ما بعد الاستشراقية المكتوبة على الوسائد الوثيرة فراغات ونتوءات بنيوية لتجربة الدولة في عدد كبير من البلدان العربية، وانتقلت في معظمها من حالة الدولة إلى ما قبل الدولة في ظل غياب السلطة، وضعفها وتهشمها، وتردي الحالة الاقتصادية وشيوع الفوضى، والميليشيات، والإرهاب، والفراغ السياسي الكبير، وترهل الأحزاب السياسية التقليدية وتراجع اقتصادات التنمية والخطاب الثقافي ومستوى التعليم مع بقاء الملفات العالقة ذاتها التي أضيفت لها مخرجات الأحداث الجديدة.
المنطقة بحاجة إلى ثقب أمل في جدار الانسداد السياسي والاقتصادي، وهو ممكن لكنه يحتاج إلى قرار شجاع من الولايات المتحدة وأوروبا في إعداد مقاربة جديدة وقراءة مختلفة لتحولات المنطقة تبدأ أولاً بإنهاء حرب غزة، وثانياً وعاشراً بالسعي لاستعادة منطق الدولة، وفضيلة الاستقرار.