: آخر تحديث

«كارين بيرقز» يا معالي المستشار..!

23
17
16

نجيب يماني

كارين بيرقز (Karen Briggs) عرفتها، حين دعاني أحد الأصدقاء المولعين بالاستماع إلى الموسيقى الصرفة دون الغناء، للاستمتاع بلحظة إبداعية فارقة، مع موسيقار جديد أطل في الساحة..

مضيت إليه ذات مساء من أماسي صيف حار ملبياً دعوته في فتور، فحاسة سمعي تربت على شدو المواويل، وشجو الغناء «المتسلطن»، و«آه يا ليل وآه يا عين»، وبقيت الموسيقى في العقل الجمعي لدينا قرينة بالغناء والصوت الإنساني الصدّاح، نميل حين ترسل «السيدة» آهاتها المواضي في «هذه ليلتي»، ونتعلق في أهداب صوت فيروز الملائكي مع «ميس الريم»، وتسحرنا نجاة الصغيرة بـ«إحساس غريب»، ويذهب بنا «صوت الأرض» إلى تخوم النجوم و«أنا راجع أشوفك»، ويزرعنا «فنان العرب» في بيدر من «الأماكن» المستجيشات طرباً وإبداعاً، وغيرهم ممن ضمخوا بعبيرهم دنيانا، وجمّلوا ليالينا بصادح النغم المنساب. فما عرفنا الموسيقى إلى بهذا «الارتباط السيامي»؛ تخت يعزف، ومغنٍ يصدح، ولا اجتماع لأحدهما دون الآخر. لهذا لم يكن حماسي كبيراً، لقناعتي أنني سأفتقد الشجو، ومحركات الشجن، وبواعث الطرب، بافتقادي عنصر الصوت الآدمي الصيدح.

أدار صاحبي الشريط من جهاز فيديو، بدا الأمر مختلفاً جداً مع هذا النجم الجديد؛ ياني (Yanni).. مكان الحفل اختير بعناية فائقة، عند الـ«اكروبوليس Acropolis» بالعاصمة اليونانية أثنيا، بكل الحمولة التاريخية والحضارية للمكان، توهج بحضور مبهر، وإعداد يفوق التصوّر والخيال، وزوايا تصوير لا تملك معها إلا أن تنفق كل ما تدخره من أسباب الدهشة.

الفرقة الموسيقية يتجاوز عددها العشرات، وفي الوسط «ياني»، في زي أبيض، بملامحه المنسجمة مع الأساطير الإغريقية، وقد أرسل شعره، وأجرى أصابعه على آلة الكيبورد والبيانو أمامه، مستبقاً المقاطع الموسيقية بكلمات، كان الحضور يصغي إليها بشغف، ويقاسمها الإعجاب بتصفيق كما لو كان زخات من مطر الحنين.

اختار «ياني» المكان ليعود إلى موطن ولادته ومرتع صباه، ليقدم ليلة حلم ظل مطوياً في دواخله المبدعة حتى برق بالـ«اكروبوليس» في ليلة الأول من مارس عام 1994م..

كسب صاحبي الرهان هأنذا منغمس في هذا الحفل الموسيقي البديع، لأول مرة أحس بالموسيقى تُرى وتُسمع وتُشم وتحس. انتقلت خيالاً واقتعدت مقعدي في الـ«اكروبوليس»، حتى إذا حانت لحظة مقطع «The rain must fall»، كان الموعد مع «كارين بيرقز» وقفت كوردة حمراء في حقل أبيض، سمراء تضرب بجذورها الأفريقية التي أعشقها شامخة القوام، أسندت خدها على خد «الكمان»، وسنّت شفرة «القوس» على أهداب الأوتار وقد هيأت لها الموسيقى الخلفية المقام لعزف منفرد، عذّبت الكمان عذاباً ممضاً، وأخرجت من جوفه صوتاً لم أسمع أبدع منه، ولا رأيت أبرع من ذلك العزف، وقد بلغت به ذروة السنام، ومناط الدهشة، وغاية البراعة والإمكان، شيء فوق مستوى التصوّر، وأبعد من مناط الوصف مهما بلغ تحركت واهتزت، تمايلت وأطربت، وتعلّقت بها العيون دهشة، حتى انتهت بصوت «كمانها» وحيداً يملأ صمت المكان، ويترك صداه في الآذان المصغية، لتندلق من ثمّ عاصفة من التصفيق البارق المهيب يا لتلك اللحظة الآسرة، وقد تغيرت كل مفاهيمي، وانطبعت صورة «كارين» في مخيلتي، وقد عادت بي إلى صحبة مثيلة في أروقة الجامعة بالقاهرة، يوم كنت فتياً، منفلت القلب، ومورق الأمنيات.

خرجت من عند صاحبي بعد ساعات ثلاث قضيتها في حضرة «ياني» و«كارين»، وعزمت على تتبع مسيرتها «السمراء»، أمضيا معاً ثلاثة عشر عاماً في انتقالات عديدة، جابت معه أغلب مدن العالم، في إبداع حرصتُ على اقتناء أكثره، والاستمتاع به.. ثم كان آخر ظهور لهما معاً في الحفلة القومية عام 2004م.. منذ ذلك الوقت لم أسمع عنها كثيراً ولم أشاهد لها نشاطاً، بدا لي غريباً أن الاحتفاء بها على مستوى الميديا ليس كفاءً لموهبتها العظيمة، فحين تمد بصرك إلى محركات البحث، ستخبرك أنها من مواليد العام 1963م، بمدينة نيويورك، وأنها ولدت فيها ونشأت في بورتسموث بفيرجينيا، وأنها أولعت بآلة الكمان في سن مبكرة، وعمقّت الموهبة بالدراسة، فضلاً عن دراستها في جامعة نورفولك في فيرجينيا، وبعد تخرجها من ثانوية وودرو ويلسون عام 1981م، حيث تخصصت في دراسة الموسيقى والإعلام، وفي سنة 1983م، عزفت مع فرقة الأوركسترا في ولاية فيرجينيا، واستمرت فيها أربع سنوات، ثم رجعت إلى نيويورك، وحصدت في هذه الفترة الكثير من الجوائز التقديرية. كما تزوجت في سنة 1988 وانتقلت إلى مدينة لوس أنجلوس وعملت مع فرق موسيقية حتى ذاع صيتها في أمريكا واليابان، وفي سنة 1991، بدأت العمل مع «ياني» إلى العام 2004، ومن ذلك الحين انقطعت أخبارها، وكما كانت دهشتي عظيمة حين رأيتها بعد هذا العمر المديد مع الموسيقار العربي نصير شمة في عرض موسيقي بمركز «ورثام» في مدينة هوستين بتكساس الأمريكية، هي هي، بذات أسلوبها الارتجالي في العزف، ووجهها الألق، وقد جعلت من العلاقة بين «العود» وأوتار كمنجتها مسافة من إبداع متفرد، وخط الشيب رأسها، ورسمت التجاعيد على وجهها رحلة عمر طوى عقوداً ستة، وتهيأ للسابعة..

ساقني الحلم لأن أراها على مسرح من مسارحنا العظيمة، وقد عرفنا جودة الحياة مع «الرؤية»، ومعاني الوفاء مع «هيئة الترفيه»، فهل نطمع يا حضرة «المستشار» في أن تكرم «الترفيه» هذه الأيقونة الموسيقية البارعة، وتعلّق على جيدها إكليل عرفان من شعب المملكة كفاء مسيرتها الحافلة بالعطاء؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد