لا شك أن أميركا في مأزق تاريخي، تكتمل فصوله في الأمتار الأخيرة التي شهدت أحداثاً غير مسبوقة في السياسة الأميركية في عام الانتخابات.
من بين هذه الأحداث الصادمة انسحاب الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن في الحادي والعشرين من يوليو (تموز) الحالي من السباق الانتخابي، عبر تغريدة على منصة «إكس»، وليس عبر بيان معتاد من البيت الأبيض.
الكوارث لا تأتي فرادى. صدى الانسحاب تردد بقوة داخل قواعد الحزب «الديمقراطي» الذي بدا وكأنه تفاجأ، رغم المطالب الحادة من كبار أعضائه بانسحاب بايدن بعد مناظرته البائسة مع المرشح الجمهوري دونالد ترمب على قناة «سي إن إن».
الحزب «الديمقراطي» نفسه لم يكن جاهزاً بخليفة قوي، وتململ من توصية بايدن بترشيح كمالا هاريس، نائب الرئيس دون إشارة أعضاء الحزب.
بعض أعضاء الحزب النافذين، نظروا إلى الأمر من زاوية مختلفة، تقوم على اختيار توافقي حر، لمرشح قادر على مواجهة دونالد ترمب ونائبه جي يدي فانس، يأتي على رأس هؤلاء الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي قال، بعد إعلان انسحاب بايدن بقليل: «سوف نبحر في المجهول»، مطالباً باجتماع شامل، يختار فيه الحزب مرشحاً يتم التوافق عليه من بين الأعضاء ذوي الثقل السياسي.
كان غريباً أن تنهال أموال التبرعات الديمقراطية بعد إعلان انسحاب بايدن وترشيح هاريس، وكأنها رسالة تفيد بأن الحزب «الديمقراطي» يعيش انشقاقات بين تيارات مختلفة، ربما تطول حتى يتعافى.
انعكاس الانسحاب والارتباك الأميركي تجاوز جغرافيا الولايات المتحدة، وعبر المحيط الأطلنطي إلى الأراضي الأوروبية، فالانسحاب، وإن كان متوقعاً، فإن أوروبا ستواجه حالة دونالد ترمب وحيدة، وهو الذي يؤمن بالتخلي عن حماية أوروبا التقليدية، ويهاجم حلف «الناتو»، ويطالبه بدفع حصته المطلوبة، وبدا الهجوم واضحاً في تغريدة إيلون ماسك، الداعم الأكبر لترمب، عندما قال: «على (الناتو) أن يدفع حصته».
في اعتقادي، أوروبا ستشكل خلية أزمة تبحث كيفية التعامل مع نتائج الأحداث الأميركية المتدافعة والمتسارعة، فلأول مرة تكتشف أوروبا أنه يمكن أن تصبح عارية من الحماية الأميركية، بعد ثمانية عقود من التحالف القوي، أي منذ الحرب العالمية الثانية.
صدى انسحاب بايدن تردد أيضاً في الساحة الأوكرانية، وانعكس في تحركات وتصريحات ساسة كييف، والخوف من وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض الذي يطالب بإيقاف الحرب على الفور.
وكان من المفترض أن تكون أميركا الدولة الراعية للسلام بحق، لكن فريق بايدن تصور أن الاستثمار في الحرب هو الأفضل، مما شكل عبئاً على قواعد الحزب «الديمقراطي».
كانت محاولة اغتيال دونالد ترمب في ولاية بنسلفانيا، وسط تجمع انتخابي، تأكيداً على الشكوك العميقة حول مستقبل أميركا بالكامل.
للمرة الأولى منذ إعلان الاستقلال الأميركي عام 1776، وبعد 46 رئيساً آخرهم جو بايدن، تعيش أميركا مأزقاً تاريخياً، تغيب فيه الحيوية الأميركية المعتادة، وتختلط حسابات واشنطن في التعامل مع المؤسسة الأهم في الولايات المتحدة، مؤسسة الرئاسة، بما تحمله من استراتيجية نافذة في الولايات الخمسين، وعبر قارات العالم، وأكاد أقول إن انتخاب الرئيس الأميركي لا يتم من أفراد الشعب الأميركي وحدهم، بل ينخرط فيه العالم، نظراً للتداخلات الأميركية العميقة في السياسة الدولية، على الأقل منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الطريق إلى 5 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ليس ممهداً، بل مليء بالعقبات الكبرى، فمن جانب الحزب «الديمقراطي» لا يوجد يقين من هو المرشح الفعلي، رغم الاتفاق الضمني على ترشيح كمالا هاريس نائب الرئيس المنسحب بايدن، وسيكون في المواجهة دونالد ترمب بإرثه الثقيل الصاخب، الذي بات قوياً بعد محاولة الاغتيال.
الشاهد أن أميركا ما بين انسحاب بايدن، وبين محاولة الاغتيال وظهور امرأة تنافس على مقعد الرئيس في الدولة الأهم، تبدو وكأنها تدخل نفقاً سياسياً طويلاً أو مظلماً، تتشابه فيه مع العالم الثالث.
كل هذا يضرب بالسياسة الأميركية التقليدية في العمق، ويفقدها مساحة التأثير العالمي، وهو أمر يرفضه الليبراليون الأميركيون، وعلى رأسهم جماعة باراك أوباما، التي تؤمن بالدور القائد للولايات المتحدة الأميركية في إدارة العالم.
إذن، المأزق التاريخي في أميركا، يتمحور حول انشقاق داخل الديمقراطية الليبرالية، بحثاً عن وجه جديد، يستعيد الحيوية داخل الحزب «الديمقراطي».
من الممكن أن تجد أميركا نفسها خارج رقعة الشطرنج إذا استمر انقسامها بهذا الشكل، وفي ظل زئير قوى أخرى، تقف على الشاطئ الآخر، تستعد للوثوب على الميراث الأميركي المتراجع وراء المحيط.
لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه الأيام الأميركية المقبلة، لكن المؤكد أن هناك مأزقاً تاريخياً إما الخروج منه، وإما الإقامة فيه.