أكثر من خمسة وسبعين عاماً مرت على النكبة الفلسطينية التي وقعت بقيام إسرائيل في العام 1948، وقذفت بنحو مليون فلسطيني إلى الشتات بعد تدمير المجتمع الفلسطيني في إطار مؤامرة استعمارية غربية، سعى أصحابها إلى حل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وتصدير هذه الأزمة إلى الخارج من جهة، واستخدام إسرائيل فيما بعد كحارس للمصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة.
وخلال هذه السنوات الطويلة من الصراع اعتمدت إسرائيل على قواعد عسكرية ثابتة في الحرب تقوم على مبدأ الحروب الخاطفة التي تقوم القوات الإسرائيلية بحسمها خلال أقل وقت ممكن، من خلال الضربات الجوية معتمدة في ذلك على التفوق الجوي والمساعدات العسكرية الغربية ولا سيما الأمريكية، التي لم تنقطع يوماً على مدى عشرات السنين، كما أن إسرائيل عمدت جاهدة لكي تكون الأراضي العربية الساحات التي تدور فيها الحروب، لأسباب كثيرة منها تقليل الخسائر في صفوف الإسرائيليين، والمحافظة على الروح المعنوية للتجمع الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، ولذلك نرى أن المدن في الداخل الفلسطيني قلما تعرضت لآثار الحروب التي دارت بين الدول العربية وإسرائيل.
ففي حرب 1956 أو ما يطلق عليها العدوان الثلاثي، التي تعد ثانية الحروب العربية الإسرائيلية بعد حرب عام 1948 كانت الأراضي المصرية ساحة الحرب، والحال نفسها في عدوان الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967، حيث تمكنت إسرائيل من حسم المعركة على ثلاث جبهات عربية خلال أيام، ولم يسجل أيضاً تعرض الداخل الإسرائيلي للاستهداف بشكل فعلي، وظلت الحياة طبيعية في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948 وكذلك هي الحال بالنسبة للحروب الأخرى كحرب عام 1973 وما تلاها رغم بعض الفوارق الطفيفة.
وبعملية طوفان الأقصى التي بدأتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر من العام الماضي أخذ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منعطفاً وتحولاً استراتيجياً كبيراً لم تعتد عليه الآلة العسكرية الإسرائيلية، ففي هذه الحرب التي دشنتها المقاومة الفلسطينية بإطلاق آلاف الصواريخ على العمق الإسرائيلي، واندفاع المقاتلين الفلسطينيين إلى القتال بوسائل غير متوقعة، يعيش الإسرائيليون حالة الحرب بشكل فعلي ويشعرون بتداعياتها البشرية والاقتصادية، والآثار النفسية التي تتركها، فضلاً عن أنها أسقطت نظرية ما يسمى بنظرية الردع الإسرائيلية التي أخذت في التآكل بعد السابع من أكتوبر، ولا سيما بعد اشتعال جبهات أخرى خارج قطاع غزة.
ويمكننا القول إن نظرية الردع الإسرائيلية أصيبت في مقتل، في السابع من أكتوبر، حيث تبددت نظرية الحرب الخاطفة وإلحاق الرعب في الجبهات المعادية لإسرائيل، كما أن استمرار الحرب لفترة طويلة من دون حسم يمثل أيضاً تهديداً لهوية إسرائيل الأمنية، التي لطالما كانت تتباهى بها، زد على ذلك أن تسابق الدول الغربية الكبرى وبشكل خاص الولايات المتحدة إلى الوقوف إلى جانب إسرائيل والجسر الجوي والبحري الأمريكي أثبت عجز إسرائيل الدفاع عن نفسها بمفردها في حال اندلاع مواجهة شاملة في المنطقة، ويضاف إلى ذلك حجم الخسائر الكبيرة التي منيت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ اضطرت قوات الاحتلال إلى الاعتراف لأول مرة خلال الحرب على قطاع غزة بنقص في عدد الدبابات، وكميات الذخائر، وهو أمر يحمل الكثير من الدلالات وانعكاسات كبيرة ستؤثر بكل تأكيد في المشهد الميداني. أضف إلى ذلك أثر الحرب الكبير على المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعاني الانقسامات السياسية الظاهرة للعيان وتضرر الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير، حيث تكبدت مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والأسواق وفروع العمل خسائر مالية فادحة.
وبحسب العديد من التقديرات فإن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني انهياراً وشللاً شبه تام وخسائر فادحة في قطاع البناء والعقارات، وفي الصناعات والزراعة والسياحة الداخلية، وذلك مع استمرار الارتفاع في كلفة الحرب وتداعياتها على الموازنة العامة لإسرائيل، التي تعاني عجزاً بقيمة 6.6% من الناتج المحلي، كما يتوقع ارتفاع التضخم المالي، وتفاقم العجز بالموازنة للعام 2024، فضلاً عن الخسارة السياسية لإسرائيل وانكشاف حقيقتها أمام العالم.
والحقيقة أن طوفان الأقصى غيّر الكثير من المعادلات التي رافقت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونسف نظرية الأمن الإسرائيلية، وغيّر إجبارياً قواعد الحرب التي وضعها بن غوريون في وثيقة من 18 نقطة عام 1953 والتي تعتمد على قوة الردع والمبادرة ونقل الحرب إلى أرض العدو استناداً إلى الإدراك بأن إسرائيل غير مستعدة لحروب طويلة. ويجب على إسرائيل ألا تكون الخاسرة، لأن الخسارة تؤدي إلى تدميرها.
أخيراً، يمكن القول إن نتائج طوفان الأقصى وآثارها على إسرائيل ستمتد لسنوات كثيرة، وهو ما ذهب إليه الأدميرال عامي أيالون الرئيس السابق للشين بيت، جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي في حديثه بمقابلة حصرية مع صحيفة «لوفيغارو» بعد الهجوم الفلسطيني عندما قال: «إن الأمر سيستغرق سنوات حتى نفهم التأثير الطويل المدى الناجم عن الرعب والخوف المرتبط بهذه الأحداث».