: آخر تحديث

فتنة أمريكية مستشرية

21
21
33

أضاف تنحي الرئيس الديمقراطي جو بايدن عن منافسة خصمه الجمهوري العنيد دونالد ترامب في السباق إلى البيت الأبيض، جرعة استثنائية من الإثارة والتشويق في المشهد الأمريكي المتقلب على صعد عدة. فتنحي بايدن لم يكن مفاجئاً، بل منذ فوزه بعهدته الأولى قبل أربع سنوات، توقع بعض الخبراء أنه لن يكمل ولايته، وإن أكملها فسيسلم الراية من بعده إلى نائبته كامالا هاريس، وهو ما تم عملياً بانتظار كلمة الحزب الديمقراطي في مؤتمره الوطني الشهر المقبل.

لم تعد الولايات المتحدة ذلك النموذج الغربي البراق، ولم تعد بمنأى عن الانقسامات والصراعات وحتى المؤامرات الناتجة عن أزمة هيكلية عميقة تعصف بهذه الدولة الكبرى، فتنحي بايدن وقبله محاولة اغتيال ترامب لم يكونا إلا تجلياً بليغاً لهذه الأزمة، وتمهدان لحقبة من الاضطرابات والمفاجآت. وسواء فاز الجمهوريون أو الديمقراطيون بالانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، فإن الشرخ الذي ضرب صورة الولايات المتحدة عالمياً لن يتم ترميمه وتجميله بسهولة، والندوب التي أحدثتها تداعيات الانتخابات السابقة مثل مغادرة ترامب البيت الأبيض من دون حضور مراسم التسلم والتسليم التقليدية بين إدارتين، ومحاولة أنصاره اقتحام مبنى الكونغرس احتجاجاً على فوز بايدن، مازالت تغذي هذا الصراع وتحوله من المنافسة إلى الاقتتال السياسي. ومن يتابع معجم الخطاب المتداول بين الزعماء الجمهوريين والديمقراطيين، يكتشف أن الأرضية المشتركة التي يقف عليها الجانبان تعاني اهتزازات مستمرة، ربما تؤدي بهما إلى زلزال مدمّر ينسف ما تبقى من مجد للولايات المتحدة.

في الوقت الذي يلوح فيه الجمهوريون بزعامة ترامب بشعار «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، يشدد الديمقراطيون على ضرورة «تحقيق الحلم الأمريكي» في التشبث بالنظام السياسي للبلاد والمساواة والدفاع عن الزعامة العالمية، وبين هذين الشعارين مجال واسع للتحليل والتدبر، فكلاهما يعبّر عن شيء تفتقده الولايات المتحدة حالياً أو تخشى أن تفتقده، فالحزب الذي يتلون بالأحمر ويتخذ من الفيل رمزاً، يرى أن القوة الأمريكية تتآكل من الداخل وتواجه «غزواً خارجياً» من المهاجرين، ما يفرض اتباع سياسات أكثر براغماتية لإعادة بناء البلاد وإنماء اقتصادها وحماية مصالحها في الخارج. أما الحزب الذي يعتمد الأزرق لوناً والحمار رمزاً، فيحمل رؤية نقيضة للأولى، تتمثل في الحديث المتكرر عن الانفتاح على العالم والحفاظ على قيادته عبر التحالفات التاريخية مع أوروبا ودول شرقي آسيا على الخصوص. وهكذا فإن التناقض بين الرؤية الأولى للجمهوريين والثانية للديمقراطيين صارخ وغير قابل للجمع، ويؤشر على انقسام أعمق يتجاوز النخب السياسية إلى الرأي العام، الذي بدأ يضج من هذا الوضع ويتخوف من تلقي هذه القوة العظمى المصير الذي لقيه على مهل الاتحاد السوفييتي العملاق قبل أكثر من ثلاثة عقود.

الوضع الداخلي الأمريكي يجابه فتنة سياسية مستشرية، لم تكن وليدة اليوم، ولن تنتهي في وقت قريب، والانتخابات المقبلة لن تحل المشكلة، بل ستعمقها على الأرجح، فإذا فاز ترامب سيصبح الديمقراطيون معارضين لا شركاء كما كان الحال في العهود السابقة، وإذا حدث العكس، فربما تكون الطامة، وعندها سيتكرر ما هو أسوأ من اقتحام الكونغرس في 7 يناير 2021، وفي مثل هذه الأجواء المشحونة كل السيناريوهات متوقعة حتى ما قد يكون الآن ضرباً من الخيال.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.