نظام شمسي تتمحور فيه نجمة جبارة، وتحوم حول هذه النجمة كواكب، وحول الكواكب تدور كويكبات نسميها الاقمار. وهذا النظام الشمسي مجموعة كوكبية، بين بلايين الانظمة والنجوم الطليقة ونيازك تتجول بسرعات كبيرة وفي حركات أكثر حرية من الانظمة الشمسية، في بنية فضائية عظيمة جبارة نسميها مجرة التبانة. والنيازك قد تمثل خطورة على الكواكب اذا ما اصطدمت بها، وهذا ما حصل قبل ستين مليون سنة عندما قضى نيزك على الحياة الديناصورية على كوكب الارض. كوكب الارض الذي تعرضت الحياة فيه الى الابادة ومن ثم تبرعمت الحياة فيه من جديد، هو اليوم كوكبنا وله الحق علينا، نحن البشر، ان نناديه بأمّنا، فالارض أُمُّنا، و هي الأم الوحيدة في النظام الشمسي كله، إذ لا حياة إلّا على كوكب الارض، فالارض أمنا والنظام الشمسي اسرتنا ومجرة التبانة سماؤنا. والبشرية، بكل ما حملت وأسست وبنت واخترعت و تعاركت وتضاربت وتحضرت وتأخرت، ليست بشيء يذكر في صرح المجرة؛ لأنه في عرف القيمة القياسية، لا قياس لها وبالنتيجة لا قيمة لها، وهي في واقع الفعل والتفعيل صفر اليدين أمام جبروت المجرة، وقيمتنا في ذاتنا من ذاتنا، أي نحن البشر لسنا سوي كيان هش هزيل يتباهى بنفسه ويفتخر مثل الذي يمدح نفسه، والمثل على من يمدح نفسه مغروس في ذاكرتنا الشعبية ولا داعي الى ذكره.
نعم، الأرض أمّنا كلنا، أي أم البشرية كلها، أي أن الجزئيات الفردية، من أفراد وشعوب و امم، كلها أبناء وبنات لهذه الأم الحاضنة والراعية والتي وفرت سبل العيش الكريم والجو الطاهر النظيف والأرض الولود بالخيرات لجميع أبنائها وبناتها، ولهذا السبب الجوهري، والذي تحول الى سبب مصيري، خصصت البشرية، من خلال هيئتها العالمية (الأمم المتحدة) يومًا في كل سنة للأرض تحت شعار «اليوم الدولي لأمنا الارض»، سمت يوم 22 ابريل من كل عام يوم الاحتفال بأُمِّنا الأرض!!! يوم الاحتفال! الاحتفال بماذا؟ وكأنه يوم عيد، من أعياد النصر والانجازات العظيمة او عيد من أعياد الخلاص من الوباء او الاستعمار والذل والقهر لا أدري بأي منطق اطلق على هذا اليوم «يوم الاحتفال»، رغم أنه يوم التذكير بالنكبات والكوارث المتوالية، على هذه الأم المسكينة المهملة، التي يخططها ويفعلها وينفذها، وبإصرار، أبناؤها العقلاء الأذكياء في مملكة البيولوجيا. يوم التذكير بضرورة حماية بيئة الأرض من تراب وماء وهواء، أي أنه يوم النكبات المتواليات. يبدو انه لفرط العجز الذي تعيشه، أو تكابده، هذه المنظمة الدولية، فقد اختلط على قادتها مقدمات المنطق بين الإنجاز والنكبات، فألحقت الاحتفال الخاص بالإنجاز إلى النكبات، وهذا المنطق الأعوج الأهوج هو نكبة بحد ذاته.
في سياق هذه الاحتفالية (بالنكبة) ينساق التعبير الاحتفالي برسم شعارات، و هي مصطلحات، لا جديد فيها ولا قيمة لها؛ لأنها اضحت من أثر التكرار مملًا… عندما يقول الشعار «يوم الارض» و«أمنا الارض» فإنه تكرار ممل، إذ يأتي كل عام، وكذلك تعبير «لا يوحد كوكب بديل»، فالكل يعلم هذا وليس من جديد، ويتمادى الشعار بتكملة المصطلحات والتعابير السابقة بأنه «لدينا كوكب واحد وإن الاختيارات الصغيرة يمكن أن يكون لها تأثير كبير»… مجموعة من تعابير براقة ولكن ليس فيها ما يكشف عن جريمة الانسان في حق الأرض وبالنتيجة في حق نفسه، ولا توجيه أصابع الاتهام والإدانة إلى الفاعلين الكبار من جرائم بحق «أمّنا الأرض».. وأكثر التعابير وقاحة هي: «في اليوم الدولي لأمّنا الأرض وكل يوم... اعملوا الآن من أجل مستقبل أفضل للناس والكوكب»، ويصمت الشعار عند هذه النقطة العاجزة، وكأن الهيئة الدولية، التي تمثل شعوب العالم، قد أدت دورها… ولا ندري لمن موجّه الكلام بالقول: «اعملوا الآن…»، والرد على هذه الخاتمة من الأمم المتحدة هو: «وأين أنتم، بكل عظمة أعضائكم، كي تنقذوا أمّكم وتحرثوا تربتها ولا تحرقوها ولا تعبثوا بها ولا تتعدوا على حرمتها، أي إلى متى وأنتم لاهُون عمّن تدّعون أنها أمكم؟!!!».
الأمم المتحدة لا بد أن يكون لها كلمة نافذة فاعلة مستجابة، بشأن مستقبل الكوكب وحال الناس عليه… حال الكوكب من حال الناس، وحال الناس من حال الكوكب، إنه وحدة الأضداد بين الفعل وردة الفعل وتجدد الفعل، وهكذا تتوالى الأفعال التي تشكل النشاط الدؤوب للإنسان. يعبث الإنسان بالكوكب، ويرد الكوكب الملوث، بعد العبث به، بنقل أمراض إلى الإنسان العابث نفسه، والإنسان لاهٍ بالعبث والعبث يضطره إلى تطبيب نفسه، دون وعي إو بالأصح دون مبالاة بأنه هو صانع أمراضه عندما عبث بالأرض. إن عبث الإنسان بالأرض أشد وطأة من عبث الابن بأمه، والعبث بالارض رذيلة لا تغتفر.
مازالت النداءات محصورة أو بالأصح محشورة في مضائق الشعارات… ورغم أن للشعارات عناوين براقة، إلاّ أنها محشورة مخنوقة، وهناك من يمنع عنها الأكسجين بقوة وإصرار، نرى بريق الشعارات ولا نتحسّس منها لا شهيق ولا زفير. في عالم الواجب والمسؤولية بالأداء والتنفيذ بما يلبّي روح الشعار، إن هي إلا كلمات جوفاء، يتساوى وجودها مع غيابها، يعني بالمثل الشعبي: «تيتي تيتي… مثل ما رحتي وجيتي».
منظمات حماية البيئة، وبدعم من العلماء والمفكرين والفلاسفة والأكاديميين والباحثين، تعمل جاهدة من أجل أن تعي قيادات الدول، وخاصة الكبرى منها، بأن خطط التنمية الاقتصادية تسير على خطٍّ كارثي بفعل الاستغلال المفرط والمبتذل للموارد الطبيعية، وهذا الاستغلال يغذي النزعة الاستهلاكية التي يتلمظ لأرباحها أصحاب الخزائن المالية، وإن السلوك الاستهلاكي، الذي يروّج له بارونات المال، قد انفرط من ضوابط العقل وصار تحت توجيه النفس المُغَرَّرِ بها وأضحى الاستهلاك تماديًا في التبذير دون كوابح عقلية.
الدولة القطبية، التي مازالت هي الاوحد، لا تأبه بما يحيق بالكوكب ولا بأجواء الكوكب ولا تأبه بما تنادي به واليه هيئات ومنظمات حماية البيئة، حتى أنها لفلفت أوراقها في مؤتمر كيوتو ومؤتمر باريس وخرجت من قاعة الاجتماعات، حيث كان ممثلو دول العالم يناقشون قضايا البيئة، ولسان حال الوفد الامريكي: «قولوا ما تشاؤون ونحن نفعل ما نشاء»… قول في كفة ميزان وفعل في الكفة الأخرى، وهذا الميزان بين القول والفعل يوازي الميزان بين الكتاب والسيف والذي عبّر عنه أحد سادة الشعر العربي أبو تمام في قوله: «السيف أصدق إنباءً من الكتب»… فمن بيده السيف لا يبالي بمن بيده الكتاب… لسان حال من بيده السيف، أن قولوا واكتبوا المقالات والكتب عن دورنا في اختراق حرمات «أُمُّكُم الارض»، فنحن لا نبالي؛ لأن السيف بيدنا، ومالك السيف حَقُّهُ يعلو فوق كل الحقوق.
«يوم الأرض» في ديباجة «عيد»، ليس إلاّ شعار أجوف يطل على شعوب العالم الواعية وعلى الكوكب الصامت المسكين مرة كل عام، حاله حال كل عيد تقليدي، مثل الاعياد الدينية وأعياد إحياء ذكريات الماضي. يوم الأرض في واقعه وموضوعه وأهدافه ليس عيدًا، بل النقيض في وجه الأعياد… إنه يوم للتذكير، وليس للذكرى، بأمر جلل وواقع حال مؤهلة أن تكون كارثية إن لم يتم تدارك الأمر في الحال أو علاج العلة في الحال، ومع التذكير يتوجب التفعيل، وإلاّ فانه، أي «يوم الأرض»، سيفقد قيمته والغرض من إعلانه وتثبيته في الذهن من أجل تحفيزه لعلاج الخلل… الكارثة المصيرية تنتظر الإنسان، والإنسان مازال لاهيًا بلذّاته التي تحفر قبره.

