: آخر تحديث

أزمة العلم العراقي، وأزمة العراق

61
66
67

لم تستطع الحكومات التي تسلمت الحكم في العراق بعد 2003 حل أية أزمةٍ من أزمات العراق المتراكمة والمتلاحقة، وبرأيي، لأنها لا تمتك الرؤية الحقيقية لبناء دولة، بل أنها لا تدرك معنى الدولة أساساً، فالدولة في نظر الأحزاب الشيعية هي أن تبقى الزيارة الدينية إلى كربلاء مستمرة دون أن يعكرها معكر، وهي بالنسبة للأحزاب الكردية أن لا تعاد الأنفال وحلبجة، وأن لا يتحلى العراق بقوات جوية حقيقية قد تستخدم لضرب كردستان مستقبلاَ، أن لا تتجاوز قوات بغداد نقطة سيطرة ألتون كوبري، كما أن الدولة بالنسبة للأحزاب السنية هي أن لا يتم إقصاء و تهميش السنة من الحكم بعد أن فقدوه للمرة الأولى منذ 14 قرناً لصالح الشيعة.

عقليات جوفاء كهذه، خالية من فكرة القومية العراقية، والهوية العراقية، لا يمكن أبداً أن تتعاون لبناء دولة، بل أن رأس الأزمات العراقية السياسية هي عدم وجود ثقة بين هذا الثلاثي، فتندفع الأحزاب للحصول على حماية دول أخرى لتحميها من شريكها في الوطن، وتلك الدول لا تقدم خدماتها مجاناً بالطبع، بل على الأحزاب التي تحميها هذه الدول من خصومها أن تعمل ما بوسعها لزيادة نفوذ تلك الدولة في العراق، وبالتالي: لا عراق سياسي، بل عراق تابع تتقاذفه البلدان وتلعب بمقدارته الأحزاب.

عدم وجود فكرة هوية عراقية يعني عدم وجود دولة عراقية، وأولى عناصر الهوية الاتفاق على وجود رمز عراقي تاريخي تتوحد الآراء تجاهه، لأن عدم وجود هذا الرمز يعني عدم اتفاق الشعب أبداً على رأي، فالبلدان في العالم تتفق على شخصية تاريخية ذات تأثير كبير في تاريخها لتلتف حوله، كجورج واشنطن في أمريكا، مصطفى كمال اتاتورك في تركيا، ماو تسي تونغ في الصين، عبد العزيز آل سعود في السعودية، وهكذا، جرب الآن في العراق أن تطرح اسم شخصيةٍ تاريخية أسست لدولة العراق الحديثة مثل الملك فيصل الأول بن الحسين، وستجد الانقسام بين العراقيين عليه، وهذا بسبب عدم توحد الأحزاب الحاكمة على فكرة الرمز التاريخي، وبالتالي فقدت التجربة بعد 2003 أولى عناصر الهوية: الرمز.

العنصر الثاني: النشيد الوطني. ولأن بناء الدولة كتنظيف الدولة إذ يبدأ من الأعلى، فقد عجزت أحزاب بعد 2003 عن تنظيف أولى درجات السلم، أي بناء أولى اللبنات في طريق بناء دولة، وهو النشيد الوطني، لذا، استوردت نشيداً فلسطينياً بالكامل ووضعته نشيداً وطنياً للعراق، العراق الذي أنجب من الشعراء والموسيقيين والملحنين، ليس لأنها لم تجد الشاعر أو الملحن الكفوء لإنتاج نشيدٍ وطنيٍ جديد، بل لأن الأحزاب الحاكمة تعلم جيداً بأنها لن تتفق على نشيد وطني، وهي بذلك تصبح أضحوكة مرة أخرى للعراقيين، لذلك فقد تجنبت الحديث بمشروع النشيد الوطني وبقي قانون النشيد فارغاً، وهذا يعكس هشاشة الدولة التي تحاول هذه الأحزاب بناءها بمنتهى الفشل والتناحر، وينطبق هذا على شعار الدولة أيضا، والمستورد من فكرة الجمهورية العربية المتحدة فيما سبق.

أما الكارثة الكبرى، فهي عدم تمكن الأحزاب من الاتفاق على علم للبلاد، وهذا موضوعٌ أكبر من مجرد قطعة قماش ملونة، بل هو يعكس الضعف والتمزق والضياع الشعبي والسياسي في البلاد، فالشعب الذي لا يتفق على رايته الوطنية ولا تقوده الأحزاب السياسية في بلاده لاختيار واحدة يعني أنه شعبٌ تائهٌ ممزق، وهو نتاج التجربة السياسية الفاشلة منذ 2003 إلى اليوم، وهكذا، بقي العلم العراقي عبارة عن علم (اكسباير) مؤقت، تم تأجيل النظر فيه حتى الآن، ووضع موضوعه على رف النسيان، فيما تتصارع الأحزاب على الكراسي والموائد والكومشنات، ويتصارع الشعب الممزق مع بعضه البعض على مواقع التواصل..

كل هذا يعني أن هوية العراق قد أضاعتها الديمقراطية وأحزابها، فلا علم، ولا رمز، ولا نشيد، ولا شعار، بل ولا حتى تاريخ متفق عليه، أي: لا هوية وطنية، وبالتالي: لا دولة.

 

#فضاءـالرأي


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي