برز الانقسام الحاد بين النخب السياسية والتيار الليبرالي والمدني في الكويت منذ زمن قبل وبعد حل مجلس الأمة في العام 2024، وتعليق بعض مواد الدستور، حول الديمقراطية مما أدى إلى سطوة خطاب الإقصاء، وبروز نجم النُخب غير الديمقراطية!
لغة الإقصاء، استطاعت ترسيخ جذور ونمطية الإقصاء في المجتمع، وفي الحوار عن الديمقراطية، وعدم تقبل الرأي الآخر وكافة الآراء المتزنة وغير المتهورة، وتمكن خطاب الإقصاء من تعقيد الحلول في المحافظة على المكتسبات الديمقراطية حتى بلغنا واقعاً مؤرقاً وأزمة سياسية.
فقدنا النهضة التنموية في الكويت، وأصبحنا بلد الفرص الضائعة، بعد أن كانت الكويت حاضنة ورائدة في كافة المجالات والميادين وخاصة على الصعيد الثقافي والاقتصادي والديمقراطي، وبلغنا حال الدوران في حلقة مفرغة، وجمود العمل السياسي بسبب تشرذم القوى السياسية غير الدينية.
القوى الليبرالية، أي المنفتحة والناضجة سياسياً وفكرياً، معظمها أو ربما جميعها فضلت الانقسام على توحد الصفوف، ووحدة العمل الوطني والرأي، في حين القوى الدينية المسيّسة كجماعة "الإخوان المسلمين" والمتخفين الموالين لهم تماسكوا وصمدوا وهادنوا!
لا يحتاج واقع الحال الوطني إلى كثير من التوصيف والتحليل في ظل معاناة شديدة من التخلف والتراجع والتشرذم السياسي بين قوى فكرية يفترض أن تتلاقى وتتوحد عند الأهداف الوطنية، والمكتسبات الديمقراطية، والتوقف عن المزيد من الانقسام والخلافات.
للأسف، القوى السياسية والفكرية الليبرالية ليست تحت سقف سياسي واحد، والمصالح الاقتصادية والغايات السياسية فرقتهم، وجمعت بعضهم أيديولوجيات احتضرت وماتت، لكنهم لا يعترفون بهذه الجنازة السياسية واللغوية!
منذ فجر التحديات في الستينات، وقبل ذلك وتحديداً في عام 1921، توحد الصف الكويتي حول الشورى، ومن ثم الديمقراطية الدستورية، ولم تنكسر صلابة الصمود أمام تحديات تزوير الانتخابات وتعليق الدستور في منتصف السبعينات والثمانينات على عكس حال الواقع الوطني الحالي.
الصراعات والتحديات والخلافات السياسية والاخفاقات والتباين في الرأي ومسار العمل وقيادته، لم تؤثر في طبيعة متطلبات واحتياجات مواجهة التحديات المبكرة قبل وبعد ولادة الدستور في العام 1962.
اليوم، نعيش وسط سباق نحو الجمود والانكفاء الاجتماعي، والشماتة السياسية والثرثرة، بمباركة غير معلنة لأطراف وجمهور خطاب الإقصاء المتعمد للعمل الجماعي، بهدف خلق نخب بديلة عن المتعارف عليها حتى بلغنا مرحلة "النخب" غير الديمقراطية!
قد يلجأ البعض إلى حجج هشاشة العمل الوطني بين القوى الليبرالية التي تنشد الديمقراطية تاريخياً، وتراكم الانقسامات والفروقات في مراحل حديثة، وغياب الرموز الوطنية كالدكتور أحمد الخطيب وسامي المنيس وجاسم القطامي رحمهم الله، وتسيد السباق نحو الزعامة السياسية بين قلة من الناس!
وسط كل هذه التناقضات والمفارقات والفروقات، يتعمق خطاب الإقصاء للعمل الجماعي بالرغم من شدة التحديات، واستفحال الأمراض التي خلفتها الفوضى والغوغائية والعمل الفردي في العمل النيابي والوطني خاصة والسياسي عموماً!
لم يقتصر العمل السياسي في الكويت على الإقصاء، وتهميش العمل الجماعي والتعاون المشترك، بل امتد إلى صناعة خصوم سياسيين ومدنيين ضمن دائرة العمل الوطني في حين المستفيد الأكبر من هذا التشرذم هي القوى الدينية المتشددة وجماعة "الإخوان المسلمين" تحديداً والحكومة أيضاً.
لعب التمييز القبلي والطائفي والفئوي في تصدير خطاب الإقصاء وخلق طبقة "النخب" غير الديمقراطية، بهدف إبعاد الخصوم وتدمير الديمقراطية وتشويه المكتسبات الدستورية من دون الانتباه إلى عمق الفجوة السياسية والاجتماعية بين قوى منفتحة فكرياً وثقافياً، وقوى اجتماعية متزمتة، وأخرى متشددة دينياً!
في غياب الرؤية الوطنية الجامعة، وفشل النخب الفكرية والسياسية في التوافق والتلاقي عند العمل الجماعي لقيادة رؤية توافقية حول طبيعة التعديلات الدستورية المأمولة، ستكون، بلا شك، بيئة العمل السياسي غير صحية، ولا تقود إلى بلورة تصور واحد لعمل جماعي وليس فردي.
ومع غياب رؤية وطنية جامعة، قد تتأثر عملية دراسة التعديلات الدستورية المتوقعة، وقد تتأثر القواعد الشعبية وتضعف مكوناتها الوطنية التي تسعى إلى المحافظة على المكتسبات الديمقراطية، والنظام الديمقراطي الدستوري.
إذا استمرت دوامة الفراغ السياسي والانقسام، وتعمقت حالة التشرذم، وغياب العمل الجماعي، والتنسيق المشترك بين التيار الوطني الليبرالي والمدني، فمن الصعب، بل المستحيل تحقيق الآمال العريضة التي أجهضتها "النخب" غير الديمقراطية وشوهها خطاب الإقصاء.
الليبرالية المقصودة والمعنية في العمل السياسي الوطني لا علاقة لها بالسلوكيات الفردية، بل المقصود ترسيخ احترام التعددية الفكرية والقبول فيها، واحترام الرأي والرأي الأخر، ووأد توغل خطاب الإقصاء في المجتمع والدولة، وتهميش المجتمع المدني، واغتيال الحريات الشخصية في التعبير والتفكير والتدبير.
*إعلامي كويتي