: آخر تحديث

لا مكان للتطرف الديني في سوريا

2
1
1

المهندس باسل قس نصر الله، المستشار السابق لدى أحمد حسون، آخر مفتي سوري، كتب تحت عنوان "أنا سوري مسيحي… لكنني أخاف" مقالة تم نشرها في صحيفة "رأي اليوم" مؤخراً، يفصح فيها عن خوفه وبالغ خشيته من تنامي التعصب الإسلامي الأصولي في سورية وتصاعده. السبب الذي يجعله خائفاً - حسب الكاتب - هو انتماؤه للطائفة المسيحية السورية.

لا شك أنَّ السيد نصر الله صادق ومحق في مخاوفه، ونحن نخاف مثله وربما أكثر منه. خوفنا عظيم من التطرف والإرهاب، لا بل أكاد أموت رعباً وذعراً بمجرد التفكير أننا في سورية على أعتاب دولة إسلامية أصولية متشددة. وكي أؤكد للسيد نصر الله مدى خوفي وخوف كل أهل سورية من تنامي وتصاعد الفكر الأصولي الإسلامي المتشدد، وحتى أخفف عنه همه وعن طائفته المسيحية همومها، وكي تكون عزيزي القارئ على بينة ومعرفة، وكذلك الأستاذ نصر الله، سأروي لكم ولحضرته ما حصل معي مؤخراً... "وأنا مسلم سوري… لكنني أخاف".

محسوبكم يا سادة يا كرام، كثير السفر والترحال، وحتى أُبعد عن نفسي رهاب الطيران وعناء التفكير بمخاطره، أول ما أفعله حين أضع قدمي في الطائرة هو أن أشغل نفسي بالقراءة. وحينما أتعب من المطالعة والقراءة، أقضي وقتي المتبقي من زمن الرحلة بالكلمات المتقاطعة وحلها، وإن سنحت لي الفرصة لا أبخل على نفسي بالنظر للمضيفات.

رحلتي الأخيرة بين إسطنبول وستوكهولم كانت رحلة متعبة غير مريحة، لا بل بالأحرى مرعبة ومخيفة، والفضل في ذلك يعود لشاب في مقتبل عمره أرسله الرب، وقاطع التذاكر، وسوء حظي ليجلس في الصف الذي أجلس فيه. كان هو بجانب النافذة، وآخر يجلس بيننا في النصف، وأنا على طرف الممر. شاب حليق الشارب، وله لحية طويلة مجعدة مصبوغة بالأحمر، وقلنسوة بيضاء تغطي رأسه كالتي يضعها الحجاج العائدون من الحج. كان يرتدي جلباباً رمادياً قصيراً تحت الركبة، وتحت جلبابه سروال من نفس اللون، وفوق جلبابه سترة سوداء غريبة لم أرَ مثلها من قبل.

إقرأ أيضاً: مقارنة بين دروز سورية وكردها

فور جلوسنا في مقاعدنا والطائرة لم تتحرك بعد، جاثمة راكدة على الأرض، وقبل أن تطير بنا طائرتنا وتشق عنان السماء، بدأ الراكب الشاب هذا بالحديث في أمور السماء مع الشخص الجالس إلى جانبه. تكلم لمدة ساعة ونصف الساعة بشكل متواصل وبصوت عالٍ مسموع وبالعربية الفصحى، وكأنه يخطب بنا خطبة يوم الجمعة. لا أخفي عليكم، بدأت أشعر بعدم الارتياح وابتليت مع مرور الوقت بوسواس متلازمة الإرهاب. صرت أفكر وأكلم نفسي بصمت: من هذا الرجل الغريب غريب الملبس والفكر؟ هل هو إرهابي؟ ماذا يخطط؟ هل سيخطف طائرتنا؟ هل سيفجر نفسه؟

كلما تحرك هذا الكائن الغريب كنت أخشى أنَّ نهايتنا قد اقتربت. حتى إنه عندما فتح حقيبته في إحدى المرات يبحث عن غرض ما، وجدت نفسي في كامل الاستعداد للانقضاض عليه قبل أن يفجرنا في السماء ونبقى في السماء إلى الأبد.

الشاب الآخر الذي كان يجلس بيني وبينه قام ومشى نحو كابينة التواليت لقضاء حاجته. قلت في قرارة نفسي: الشكر والحمد لك يا رب، أخيراً سيصمت هذا المتخلف ونرتاح لبعض الوقت. لكنه مال نحوي ليسألني: هل تقرأ القرآن يا أخي؟ لم أنتظر طويلاً لأرد عليه: لا والله، أنا لا أقرأ القرآن ولست بمسلم، أنا من جماعة ابن عربي والحب ديني. ثم توقفت لبرهة وقلت: والصمت أيضاً ديني.

وفجأة صمت وبلع لسانه، واستمر بالصمت حتى بعد عودة صاحبنا في الرحلة وجلوسه بيننا. لم يتكلم معه ببنت شفة وبقي صامتاً طوال المدة الباقية من الرحلة. عدت كعادتي لأستمتع برحلتي بين النظر إلى المضيفات وبين القراءة وحل الكلمات المتقاطعة.

إقرأ أيضاً: سورية جميلة وعطرة كالياسمين

الدعوة إلى الدين مكانها الجامع والكنيسة، ومن الممكن أن يدعو شخص ما شخصاً آخر إلى الدين في مكان آخر خارج أماكن العبادة. لكن يشترط في صحة مثل هكذا تصرف توافر شرط الرضا وشرط الإذن من الآخر المتلقي. خلال سنوات حياتي في السويد طالما طرق باب بيتي أشخاص يسمون أنفسهم شهود يهوه، وهي طائفة مسيحية تدعو للدين. حين أفتح الباب وأجد أحدهم أمامي يبتسم ابتسامة عريضة ويقول: مرحباً، أنا من كنيسة شهود يهوه، هل بإمكاني الحديث للحظة لو سمحت؟ فأرد عليه: لا، لا يمكنك ولا أسمح لك. دعني وشأني، وأغلق الباب في وجهه.

لا شك أنَّ حرية التعبير تُعتبر حقاً ثابتاً وأساسياً من حقوق الفرد، تضمن له التعبير عن أفكاره ومشاعره ومواقفه وحتى معتقداته الدينية. حق التعبير عن الدين وحق حرية الدعوة إلى فكر ما أو دين ما أو ديانة معينة حق محفوظ وهو جزء من حرية التعبير طالما أن هذا الحق لا يتعارض مع مبدأ حرية الفكر والمعتقد. لكن الذي يحدث اليوم في سورية، في الأماكن العامة وفي الشوارع وعلى الطرق، رغم ندرته وقلة حدوثه، أمر يتعارض مع حرية المعتقد ويسيء إلى جمالية المكان في نفس الوقت. باعتبار أنَّ الدعاة هؤلاء منظرهم يخل بالمنظر العام الجميل لمدننا وشوارعنا وأماكننا العامة. ولأنَّ فكرهم غير معروف بعد، وقد يكون من النوع التكفيري العنيف والهدام للدولة والمجتمع على السواء.

إقرأ أيضاً: نهاية ب ك ك

الخوف الذي أعرب عنه الأستاذ نصر الله في مقاله خوف مشروع بدون أدنى شك نظراً للخلفية العقائدية للمحَرَّرين. لكن من المحتمل أن يكون هؤلاء قد غيروا ما بأنفسهم. وأعتقد أنَّ القائمين على إدارة سوريا الجديدة، سوريا اليوم، والسيد أحمد الشرع وفريقه المقرب منه، يدركون جيداً أن التطرف والتشدد الديني في سورية لن يحظى بالحياة والديمومة، وأن الدين لله والوطن للجميع. ولأن أهل سورية لهم تاريخ ديني معتدل وسمح، ولأن نظرية الموروث الثقافي نظرية صحيحة وقويمة ثبت صوابها، لذا لن يكون للتطرف الديني مكان في بلادنا. ستختفي هذه الظاهرة في القريب العاجل، ولا خوف على سورية وأهلها، والله أعلم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف