محمد الساعد
يأتي إعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن عزم المملكة توسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية في الولايات المُتحدة خلال السنوات الأربع المُقبلة لـ600 مليار دولار، ليتوج رحلة من العلاقات الوثيقة بين قطبين عالميين، تكاد تصل لمئة عام قريباً، عمادها الشراكة السياسية، والاستثمارات المتبادلة، والمصالح الاقتصادية الكبرى.
بدأت المحطة الأولى من العلاقة الاستراتيجية بين الحليفين «الرياض وواشنطن» باكتشاف النفط في السعودية العام 1933م، لتكون منعطفاً هاماً ليس في تاريخ البلدين، بل وفي الاقتصاد العالمي أجمع، فقد تحول النفط بسبب الشراكة السعودية الأمريكية إلى المحرك الأساس لحياة البشرية.
كما تُوّجت العلاقة باللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت العام 1945م، على متن الطراد «كوينسي».. وهو اللقاء الأكثر أهمية بعد الحرب العالمية الثانية، أثمر عن تفاهمات مبدئية شكّلت علاقة عميقة بين البلدين استمرت حتى اليوم.
المحطة الثانية جاءت مع تأسيس «الأمير فهد بن عبدالعزيز» –الملك لاحقاً- العام 1974 (اللجنة السعودية الأمريكية المشتركة)؛ وهي اتفاقية إطارية في غاية الأهمية جرت خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، وتولت تطوير النشاط الاقتصادي والتجاري بين البلدين.
جرت الاتفاقية بعد أن التقى «الأمير فهد بن عبدالعزيز» بوزير الخارجية هنري كيسنجر، حيث وقعا اتفاقية اقتصادية بين البلدين، وخلال هذا الاجتماع، تم إنشاء اللجنة الاقتصادية المشتركة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. وركزت الاتفاقية على التعاون في مجالات التصنيع والتعليم والتكنولوجيا والتنمية الزراعية.
وتعظيماً للاتفاقية، وخلال استقبال الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- للرئيس نيكسون خلال زيارته للمملكة العربية السعودية العام 1974، عقد الاجتماع الأول للجنة الاقتصادية المشتركة الأمريكية السعودية، تأكيداً لعمق العلاقة الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين.
المحطة الثالثة تأتي اليوم على يد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي طرح جملة من الاستثمارات الكبرى خلال الاتصال الذي أجراه ولي العهد بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب بعد حفل التنصيب، أبدى فيه الأمير محمد بن سلمان رغبة المملكة بتوسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية في الولايات المُتحدة خلال السنوات الأربع المُقبلة لـ600 مليار دولار.
تأتي الاستثمارات التي تُخطط المملكة لتوسيعها داخل الولايات المُتحدة الأمريكية خلال السنوات القادمة استكمالاً للشراكات الاقتصادية والتجارية التي بدأتها المملكة مُنذ الفترة الأولى للرئيس ترمب 2017م، والتي شملت العديد من الفرص في القطاعات الواعدة، لما لها من انعكاسات مُباشرة في نقل وتوطين التقنية وخلق الفرص الوظيفية والاستفادة من القفزة التنموية التي تشهدها المملكة بوصفها الاقتصاد الأسرع نمواً بين دول مجموعة العشرين.
كما يأتي إعلان ولي العهد متزامناً مع إعلان صندوق «سوفت بنك»، الذي تمتلك المملكة حصصاً فيه، عن عزمه تخصيص 500 مليار دولار في استثمارات خاصة بالذكاء الاصطناعي. الاستثمارات السعودية المنتظرة في الولايات المُتحدة خلال السنوات الأربع المُقبلة تهدف لتحقيق العديد من الاستحقاقات في مجالات التعاون المُشتركة الهامة المُتفق عليها مُسبقاً؛ وفي مقدمتها «الصناعات العسكرية، استكشاف الفضاء، تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي، تطوير الطاقة النووية». الولايات المتحدة الأمريكية ليست شريكاً عادياً، بل هي أحد أهم الشركاء الاقتصاديين للمملكة، وإحدى وجهات الاستثمار السعودي المفضلة، ولا أدل من ذلك ارتفاع حيازة السعودية من سندات الخزانة الأمريكية إلى 140.3 مليار دولار خلال شهر يونيو 2024م، كما تحتل أمريكا المرتبة الثانية للصادرات السعودية والمرتبة الأولى من حيث الواردات، وتعد السعودية أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط لأمريكا، وحقق رصيد الميزان التجاري فائضاً لصالح الرياض طوال العشرة أعوام الأخيرة، كما توجد أكثر من 500 شركة أمريكية تستثمر في المملكة، ووصل مجموع المشروعات الأمريكية السعودية المشتركة إلى 609 مشروعات تصل قيمة الاستثمار فيها إلى نحو 62 مليار دولار.
اليوم ومع الجهود الكبرى التي يبذلها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لترتيب العلاقات السعودية الأمريكية وإعادة تموضعها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وصولاً إلى مجموعة من الترتيبات لاتفاقات واستثمارات تضمن للبلدين تكاملاً اقتصادياً وتوطيناً للصناعات وتعظيماً للعوائد.
لقد استمرت العلاقات السعودية الأمريكية ما يزيد على 90 عاما شابها الكثير من التوافق، بدأت باستثمار أمريكي في بئر نفط سعودي، وتستكمل اليوم بجملة من الاستثمارات السعودية الضخمة تصل إلى 600 مليار دولار، حرص خلالها البلدان، وخاصة المؤسسات العميقة، على علاقات وثيقة لم تخدمهما فقط، بل ساهمت في تحقيق إمدادات آمنة للطاقة، واستقرار الاقتصاد العالمي، وحافظت على الأمن والتنمية في منطقة الشرق الأوسط والعالم.